حيفا «جنة لم تسقط تفاحتها» رواية للفلسطينية ثورة حوامدة

تقوم رواية «جنّة لم تسقط تفّاحتها» للفلسطينية ثورة حوامدة، على محورين أساسيين، المحور الأول هو العلاقة بين الإنسان الفلسطيني وأرضه ووطنه، وتمثلها عائشتان (عائشة الجدة وعائشة الحفيدة)، والمحور الثاني هو العلاقة بين هذا الإنسان الفلسطيني وعدوّه الصهيوني. وما بين المحورين، نقف على العلاقة مع شخصية يهودية/ إسرائيلية خارجة على الصهيونية (ديفيد/داود)، كأن الرواية تريد طرح الحل البديل لكل ما يحصل، فهي تقترح اندماج اليهوديّ والعربي في دولة فلسطينية موحّدة!

في الرواية، تصرّ عائشة الحفيدة على تلبية وصية عائشة الجدّة بأن تُدفن في يافا، مسقط رأسها ومدينتها التي هُجِّرت منها عام 1948، فتستأجر سيارة لتهريب جثة الجدة من المخيم في رام الله إلى يافا، وقبل الوصول إلى يافا، يحصل الاصطدام بدورية إسرائيلية، ولا نعلم عن مصير السيارة ومن فيها، سوى اعتقال عائشة الحفيدة، التي سنراها في بداية الرواية تحكي من سجنها مجريات الرواية، فهي تبدأ من النهاية، من وداع جثة الجدة، وتعود (فلاش باك) على حياة هذه الجدة وحفيدتها، في محور أساسي من رواية الكاتبة الفلسطينية ثورة حوامدة «جنّة لم تسقط تفّاحتها» الفائزة بجائزة كتارا أخيراً، والصادرة عن الدار الأهلية- عمّان.

هذا محور من محورين أساسيين تقوم عليهما الرواية، أعني محور العلاقة بالوطن والأرض، كما ترسمه الكاتبة، بينما ترسم خطّاً آخر يقوم على قراءة العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي. وهي علاقة معقدة، لكن الأساس هنا هو شخص ديفيد/ داود الذي يعيش بقلب شهيد فلسطيني تم انتزاعه من الشهيد وزرعه فيه، فكيف يعيش يهوديّ/ إسرائيليّ بقلب إنسان فلسطيني؟ هذا مع العلم أن داود هو ابن واحد من كبار رجالات الأمن في إسرائيل، ما يزيد الرواية تعقيداً وغرائبية.

تنحو الروائية الشابة منحى جديدا في الرواية الفلسطينية، فهي تأخذ الرواية نحو نقطة الصراع الأساسية بين الفلسطيني واليهودي، كيف يعيش داود بقلب شهيد فلسطيني؟ وكيف يصبح معادياً للصهيونية؟ وكيف يمكنه التعايش مع الفلسطينيين كما لو كان فلسطينياً؟ هذه الأسئلة وغيرها تطرحها هذه الرواية ببساطة وبلا أي تطرف أو أي انفعالات زائدة.

تبدأ الرواية مع عائشة الحفيدة في السجن الإسرائيلي، على أثر محاولتها إدخال جثة عائشة الجدة إلى يافا، واصطدامها بالدورية الإسرائيلية، وتنتهي بمحاولة «تهريب» الجثة» إلى يافا، وما بين البداية والنهاية تجري الكثير من الحوادث، خصوصاً في ما يتعلق بشخصية ديفيد/ داود وعلاقته بوالده رجل الموساد، وهي مسألة من مسائل الرواية، ولا بد من الوقوف عليها، حيث داود في المستشفى بعد زرع القلب له، ثم تساؤلاته عن مصدر هذا القلب، وضياعه بين والدته الأمريكية الجنسية ووالده رجل الموساد.

فهذا الشابّ اليهودي الإسرائيلي مُعادٍ للصهيونية، ويبحث عن أهل الشهيد الذي زرعوا قلبه فيه، لكي يكافئهم ويعوّضهم، يستعين بصديق فلسطيني ويدوران في مدن الضفة، ومن خلال جولتهما نتعرف على معالم وملامح شعبية، المطاعم والمقاهي، فالوصول إلى ما يشبه بيت الشهيد، بيت في قرية يستقبلهما أهله بحب، وتدور أحاديث، ويتناول الطعام والشاي مع عائلات عربية، ديفيد هذا وجد نفسه مع العرب في أجواء حميمية، ووجدهم بشراً طبيعيين، بل كرماء، على رغم تواضع أحوالهم المعيشية

 فيبدأ تصاعد التحوّل في شخصيّته وتفكيره تجاههم، ويغدو اسمه داود بدل ديفيد، ويتساءل «أهذا القلبُ هو فلسطين التي نحاصرها؟ وتصمت بالقوة لإحكامنا السيطرة عليها بالقوة؟». ثم يضيف أمام مشهد للمواجهة «تكتلٌ واضحٌ كان لشبانٍ يواجهون سياراتٍ عسكرية، على بُعد مئتي مترٍ من حاجز حوّارة، وقنابل الغاز المسيل للدموع انطلقت من بنادق جنودنا واحدةً تلو الأخرى، وأشجار زيتون وقفت بالمرصاد.. وتَجمع لصبيةٍ حملوا في أيديهم حجارة، يقذفونها في وجه بنادقنا، ثم يعاودون تشبيك أياديهم لإتمام رقصتهم».

 ثم يتعرّف إلى فتاة هي حبيبة الشاب الشهيد الذي زرعوا قلبه له، ويراها في مواجهة مع الجنود، فيصرخ بهم كأنهم سيقتلونه هو «وبصوتٍ عالٍ، بالعبرية، أخذت أصرخ بقوة أمام جنود مدجّجين بالموت على مسافة ليست بالبعيدة:

_ لا تقتلوني أكثر من ذلك!

_ لا تقتلوها مرتين!

ومن دون أن تسقط في التصوير الميلودرامي الفج، تلجأ الكاتبة إلى المشاهد الدراميّة والتراجيديّة لتصوير هذه المواجهات بين الشبّان العرب والجنود الصهاينة، وتصف تدخّلات ديفيد إلى الجانب العربي بقدر من الحرارة. بل تتركه يُبدي إعجابه ودهشته أمام الكثير من الحب والجمال.

نعود إلى عائشة (الحفيدة) في زنزانة منفردة، تفكّر وتتأمّل وتتذكّر محطّات من حياتها وحياة عائلتها، والدها ووالدتها وجدّها، والأهمّ هي جدّتها التي سمّيت باسمها، وتجمعها تفاصيل كثيرة بها. وتستغلّ ذكرياتها معها لوصف يافا (وفلسطين عموماً) ووصف جمالها وتاريخها ومعاناتها. وتلقي الكاتبة/ البطلة أضواء ساطعة على أحياء وقرى ومخيّمات، وتسير بنا في مسارات حياة صعبة اجتماعياً واقتصادياً وسياسيّا وأمنيّاً، وصولاً إلى وفاة الجدّة عائشة، حيث تبدأ التحضيرات – سرّاً – لتنفيذ الوصية، ونقل الجدّة إلى يافا (الجنّة)، وكيفيّة تجاوز الصعوبات التي تبلغ حدود المستحيل.

نحن حيال «وقائع» ذات طبيعة رمزية، في القصّتين. ففي قصة عائشة نحن أمام إصرار الفلسطينيّ على العودة إلى مسقط رأسه وموطنه وموطن أجداده، ولو عاد إليها مَيْتاً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى رمزية قصة ديفيد، حيث يمكن القول إن الكاتبة ترى، عبر بطلتها عائشة (الحفيدة)، أنّ قلب الشابّ العربيّ قد أعاد الحياة لهذا الشابّ اليهوديّ، لأنّ ديفيد فنّان أولاً، وغير متزمّت وليس عنصريّاً.

 بل إن الرواية «تقول» إن القلب العربيّ/ الفلسطينيّ هذا، هو ما جعل اليهوديّ (إنسانيّاً) ويقف إلى جانب الحقّ والكفاح الفلسطينيّ، وإنه لو تمّ هذا اللقاء بين العربيّ واليهوديّ (وليس الصهيونيّ) لجرى التوافق، وربّما حلّ السلام تطرح علينا هذه الرؤية سؤال «ما الحلّ للصراع العربي الصهيونيّ؟». وهل تؤمن الكاتبة أن الحل، مثلاً، هو في دولة واحد للعرب واليهود، بعد زوال الصهيونية؟ بعد زوال دولة إسرائيل ووحشيّتها؟

ثمّة في الرواية إشارات وتلميحات إلى تعايش العرب واليهود قبل انفجار الصراع، وقبل قيام الصهاينة بالتحضير لإقامة دولتهم على أنقاض الوطن الفلسطيني، ما يجعل ثمّة إمكانية لهذه القراءة، وإمكانية أن تعود حيفا (وفلسطين عموماً) لتكون «جنّة… لم تسقط تفّاحتها»، وتكون رواية ثورة حوامدة دخلت منطقة لم يسبق أن قرأتُ أن ثمّة رواية فلسطينية قد دخلتها بمثل هذا الوضوح الرمزيّ… «فلسطين هذه الجنة التي لم تسقط تفاحتها بعد، وإن سقطت؛ ستسقط معها هذه المَهزلة القدرية، هذه الدولة الكبيرة المستكبرة، المتعالية العنجهية، عديمة الديموقراطية..».

كتبت ثورة روايتها بلغة وتصوير يتّسمان بمقدار من الشاعرية، على مستوى التعبير والمشاهد ذات الشفافية، متقدّمة على روايتها الأولى في نضج العبارة والاستعارات، ما يبشّر بمستوى متقدّم في أعمال آتية.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى