
سويسرا| لوزيرن – في هذا العالم، ليست كل الأسوار جدرانًا، وليست كل الأصفاد حديداً. أحيانًا، يصبح السجن حلمًا، ويغدو القيد خلاصًا، حين تلفظنا الأوطان إلى العراء بلا كسرة خبز أو ظل أمان. بين الكاتراز القابع وسط أمواج المحيط، وسجون سويسرا الهادئة كفنادق صغيرة، تمتد حكاية تكشف لنا وجهًا صادمًا للعدالة… وعدالة أكثر قسوة تُسمّى الفقر.
على أطراف المحيط، كانت الكاتراز تقف كصخرة عنيدة في وجه الزمن، حصنًا منيعًا ضمّ بين جدرانه أعتى الوجوه وأخطر الأسماء. زنازين ضيقة، أبواب فولاذية، وصمت لا يُسمع فيه سوى وقع خطوات الحراس. ثم، بمرور الأعوام، انطفأت صرامتها، وارتدت ثوب المتحف تستقبل الزوار بدل المساجين. لكن اليوم، وكأن القدر يعيد اللعبة، فُتحت أبوابها مجددًا… لا لاستقبال قتلة أو لصوص، بل مهاجرين يطاردهم الحلم، أسموه ساخرين: بحيرة التماسيح.
من هناك، أخذتني قدماي بعيدًا، إلى قلب أوروبا… إلى لوزيرن، مدينة تكتب قصيدتها بالألوان: جبال شامخة كحُرّاس الزمن، بحيرات كالمرآة تعكس وجه السماء، وهضاب خضراء تفرش الأرض بساطًا سندسيًا. جاءت بي الذكرى لا السياحة، فقد كان في انتظاري صديق قديم، أعرفه كما يعرف الموجُ الساحل.
صعدنا معًا في التل فريك، نتسلق نحو قمة تعانق الغيم، حتى بلغنا المحطة الأخيرة حيث مقهى صغير يطل على القرى الهادئة. جلسنا هناك، وأثناء رشفة قهوة، جئت على ذكر زيارتي الأخيرة للكاتراز. عندها، ابتسم صديقي، وأخذ يحكي… عن السجون في سويسرا، لا كما تُروى في الأخبار، بل كما تُعاش في الجدران.
قبل عشر سنوات، ذاق هو طعمها بنفسه في جنيف، بسبب قضية هجرة. كان السجن هناك أشبه بفندق راق لكل سجين غرفته الخاصة، فيها سرير نظيف، طاولة، وحمام خاص. مكتبة واسعة تُسافر بك في عوالم الكتب، وصالة رياضية تُنعش الجسد. العمل متاح بأجر كريم، يُحفظ للسجين حتى خروجه، ليجد ما يبدّد قسوة البدايات. “هنا،” قال لي، “لا يُعامل السجين كجريمة، بل كإنسان تعثّر في طريقه.”
ثم حكى لي حكاية امرأة كولومبية، ضُبطت في المطار بحقيبة ممتلئة بالمخدرات. نالت محاكمة عادلة، وحكم عليها بست سنوات، قضت منها خمسًا في الخياطة، حتى خرجت لحسن سلوكها.
لكن الدهشة لم تأتِ من قضيتها، بل من كلماتها بعد الإفراج، حين سألها التلفزيون السويسري: وماذا ستفعلين الآن؟ فأجابت بابتسامة ثابتة:
“سأعود، ومعي ابنتي، وكلٌّ منا يحمل حقيبة مخدرات. وعند الوصول، سأبلغ عنّا بنفسي… لنعود إلى السجن. هناك نأكل جيدًا، ننام على أسِرّة، ونعمل بأجر كريم… أهون من البؤس في وطني.”
عندها أدركت أن المأساة الحقيقية ليست في قسوة السجن، بل في رحمة السجن مقارنةً بالواقع خارجه. أن يحلم إنسان بقيود تحيط به، وجدران تمنعه من الرحيل، لمجرد أن يجد طعامًا نظيفًا وسريرًا دافئًا، فذلك يعني أن الحرية في بعض الأوطان ليست هبة… بل عبء. في عالم كهذا، يصبح السجن ترفًا، وتصبح الحرية مجاعة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة