‘حي الأميركان’ .. المكان بطلاً في رواية ترسم مصائر التطرف

“المدينة ميتة. تستيقظ متأخرة، وتتحول إلى مدينة أشباح بعد الثامنة ليلاً.. سيطر المتطرفون على المساجد وطردوا منها الخطباء الذين يحجمون عن الدعوة إلى الجهاد كيفما اتفق..”.

حدث هذا في الواقع، وفي الرواية، مع بداية عقد ثمانينيات القرن العشرين، وصولاً لما بعد احتلال أميركا للعراق في عام 2003، مروراً بحقبة المجاهدين العرب في أفغانستان. وحدث هذا من قبل، وسيحدث من بعد، في مدن عربية كثيرة، بل وفي أحزمة الفقر وضواحي مدن أوروبية، وآخرها باريس.

يقدم جبور الدويهي في روايته “حي الأميركان” (دار الساقي – بيروت 2013) أبطالاً يشبهوننا، في طرابلسه التي تشبه مدناً عربية كثيرة لناحية تدهور شروط الحياة فيها بالمقارنة مع عقود مضت، الحياة الاقتصادية في تراجع، والصحة والتعليم كذلك، والحريات العامة، وحرية التعبير تراجعت بدل أن تتقدم.

• زخارف المكان

المدينة هي طرابلس لبنان، المدينة المملوكية المتعصبة لرموزها السُنية في لبنان الغارق في الإقطاع السياسي وفق العُرف الذي تكرس دستوراً للطوائف في أعقاب حرب استمرت 16 عاماً. دخل بعدها لبنان في مرحلة هدنة طويلة دون أن يعرف أحد متى ستستأنف الزعامات الجزء الثالث من حرب كان جزؤها الأول عام 1958، والثاني في عام 1975.

قبل الدخول في الحدث الروائي، ومحاولات تأويله، يمكننا الإشارة إلى تغيرات رصدها الكاتب بكثافة لغوية، عبر أحداث كرونولوجية – اجتماعية ضمن الإطار الروائي المتخيل، لكن شبه المطابق للواقع، وإن كان غير موثق بالتواريخ والأسماء الحقيقية.

يقول الدويهي: تحطم تمثال مصطفى العزام جراء تفجيره بعدما ظل زمناً طويلاً يقف على بوابة المدينة ممسكاً بيده وثيقة إعلان الاستقلال الوطني.

هنا، يشير الروائي إلى استبدال المتطرفين الزعامات التقليدية بزعامات الشيوخ الإسلاميين المتوجين عبر البروباغاندا الدينية المرفوعة بالجهل والفقر حين اجتمعا كما ينبغي لهما.

ويقول: ترث الأم انتصار خدمة آل العزام. أما إسماعيل فيرث عن أبيه الحي، بلال، مسدساً استخدمه في الانتقام لمقتل أحد الشيوخ.

توشيات الدويهي وزخارفه الروائية بعيدة عن استعراض عضلات اللغة، قريبة من علم الاجتماع، بما هو علم، حتى مع غياب الإحصاءات والجداول التي ترصد زيادة عدد المواليد، وتقلص المساحات المزروعة التي يشغلها الفقراء، ملكاً، أو عملاً.

طرابلس الدويهي اللبنانية، بما كان يمثله لبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، نموذج صارخ التناقض عن التراجع المأساوي لآمال الطبقات الوسطى والفقيرة التي كانت تحمل آمالها في مستقبل مادي مريح، ومستوى تعليمي وصحي جيد لأبنائهم. بالإضافة إلى تنكب هذه الطبقات لشعارات التقدم والتحرير والخلاص من آثار الاستعمار الذي قيَّد تقدم تلك البلدان. الحال أن الزمن يتقدم، ومستوى الحياة في بلادنا تراجع حتى بالنسبة للأيام التي كانت فيها مستعمرة. فاستبدل الفقراء الشعارات التقدمية والعلمانية بشعارات إسلامية ليتابعوا حمل “أمانة الأمة”، في نكوص لا تخفى مقدماته ونتائجه.

هذا حال طرابلس، ولبنان. كيف الحال مع مدن عربية كثيرة تحلم أن تصل إلى درجة السوء الذي يشكو منه الدويهي في مدينته، وفي لبنانه عموماً.

الحكاية في مفاصلها العامة ليست غريبة، أو مفاجئة. ما يثير هو وضوح الرؤية لدى الكاتب، بتتبع حياة شخصياته، أو صنع مصائرها. لعله هنا “ينسخ” من واقع عايشه بين مواطنيه، كما درسه كأستاذ جامعي، وإن لم يكن هذا تخصصه العلمي الدقيق.

• شروط الفقر

يروي الدويهي سيرة التشكل الاجتماعي التقليدي الأول الذي يربط عائلة زعامة سياسية لبنانية بموظفيهم، وخدمهم من الطبقة الفقيرة، وصولاً إلى تشتت الزعامة نفسها في جيل الأحفاد، وتردي حال الخادم الفقير أكثر وأكثر ووقوعه في فخ التطرف.

أبطاله بلال محسن، وزوجته انتصار، وابنهما إسماعيل البكر، وأخوه المعاق. يعيشون جميعاً في حي الأميركان، البطل الحقيقي للرواية.

عقلان! تقول جارة انتصار واصفة إسماعيل: “.. لا يمر في ردهة المدخل إلا ويبادر بـ (السلام عليكم)، من دون أن يرفع نظره نحو النساء..”.

كان إسماعيل يتدرب في جامع العطار. وحسب الدويهي، فالجامع “بناه الأمير سيف الدين المملوكي في القرن الرابع عشر الميلادي مكاناً لتجنيد الشبان وإرسالهم في مهمات جهادية”.

لدى بلال محسن ابن معاق يلعب دوراً مهماً في الرواية بالرغم من قلة ظهوره بين شخصيات الرواية. يتذكر إسماعيل أخاه المعاق قبل لحظات من تفجير حزامه الناسف في باص قرب بغداد، حين يرى طفلاً عراقياً كان يسير في ممشى الباص ويعد الركاب. عندها عاد لإسماعيل عقله من باب قلبه، فقرر عدم تفجير الحافلة. نزع الحزام الناسف عن جسمه في دورة مياه، وأخفاه في مكان ما. ثم تابع بنظره الحافلة البرتقالية الكبيرة وهي تمر بقربه آمنة بركابها من غدر الحزام.

يعود إسماعيل عبر مصادفة إلى لبنان دون أن يقع في يد المخابرات اللبنانية، مرافقاً لعائلة مسيحية عراقية هاربة من جحيم الحرب العراقية التالية لاحتلال أميركا لبلاد الرافدين.

بالطبع، ذلك الحدث الروائي المثير للتفاؤل لم يكن مجانياً في رؤية الدويهي، بل نوعاً من رؤيا تحاول تصحيح الأمور، والقول إن الإنسان خيِّرٌ بطبيعته، على عكس ما يقول المدفوعين بفائض الشر المحيط بشرق المتوسط والعراق، خاصة في سنوات العقدين الماضيين.

• ثلاثة خيوط للزمن

للحدث الروائي ثلاثة أماكن في زمن واحد قصير نسبياً؛ حي الأميركان في طرابلس، ورحلة إسماعيل القصيرة إلى العراق، والرحلة الطويلة لعبدالكريم العزام إلى باريس.

الشابان استكشفا حياة تتقدم أو تتراجع خارج لبنان وطرابلس وحي الأميركان.

أما بلال محسن (والد إسماعيل) فظل مستقراً في حالة “استزلام” للبيك، واستسلام للفقر، يعيش بين بيته في الحي المكتظ بالسكان، وبين أسواق “أم الفقير”، ببضائعها الموجهة للأجساد المتدافعة في منازل تضيق بأرواح سكانها قبل أجسادهم.

• باريس

يعيش حفيد البيك عبدالكريم العزام في باريس، بعد تفجير تمثال جده. عمل هناك في شركة سعودية، استثماراً لمصاهرة بين أسرته وأسرة سعودية.

في باريس، يعشق عبدالكريم راقصة باليه صربية تعيد ترتيب حياته. وبعد أن عاش معها فترة سعادة قصيرة، تغادر وهي حامل دون أن تترك عنواناً.

وبعودته إلى الفوضى التي كان يعيش فيها قبل حالة العشق، ترتب له أسرته موجبات عودته إلى طرابلس، بالحيلة، وبالضغط عليه مالياً. الهدف من ذلك وراثة زعامة جده السياسية.

• الراوي الطرابلسي

بعودة إسماعيل من العراق، لم يجد ملاذاً سوى حفيد البيك العائد من باريس حاملاً أسطوانات الموسيقى والأغاني الأوبرالية، وأشجار ليمون قزمة أودعتها حبيبته لديه. أسنان عبدالكريم لم تنس، مع ذلك، طعم التفاح المغطس بالقطر الذي أطعمته إياه انتصار، والدة إسماعيل، حين كان طفلاً وزار حي الأميركان.

بمثل هذه التفاصيل والزخارف يقدم الدويهي حركة السكان في الحي، في نهارهم وليلهم، تاركاً الخلفية التاريخية للمدينة كستارة بعيدة باهتة اللون أمام حقيقة التناقضات اللونية الصارخة لحاضر تتنافر ألوانه بسطوع شديد.

عودة حفيد البيك من باريس، وإسماعيل من العراق، تشكلان بداية أكثر مما تمثلان نهاية للرواية – الواقع. هنالك إذن مصائر سيشكلها أبطال الحدث، لاحقاً، إن لم يدفع بهم الزمن من جديد إلى اختبارات جديدة لإنسانيتهم المحاطة بضجيج الميديا، والحروب، والفقر الذي يفرض شروطه على “حي الأميركان”.

أخيراً، الحي الشهير الذي اختاره الروائي عنواناً لروايته، يضع أميركا في قلب الحدث. فأميركا تلعب من خلف ستار في الواقع، وفي الرواية.

• الدويهي

وُلد جبور الدويهي عام 1949. عمل أستاذاً للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، وقام بإصدار مجموعة قصصية واحدة “الموت بين الأهل نعاس”، وقصة للصغار بالفرنسية بعنوان “روح الغابة”.

ترجمت رواياته إلى الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية والتركية. له ست روايات، هي: “اعتدال الخريف” (حازت على جائزة أفضل عمل مترجم من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة)؛ “ريا النهر”، و”عين وردة”، و”مطر حزيران”، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008.

كما اختيرت روايته “شريد المنازل” ضمن القائمة القصيرة للجائزة نفسها عام 2012، وفازت بجائزة حنا واكيم للرواية اللبنانية 2011، إضافة إلى جائزة “الأدب العربي الشاب” في باريس 2013.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى