خائفٌ… لا جبان (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

I ـ لا أحد يموت حبا؟

التسامح في زمن القتل، «ضرب من الغيب»، عبث مر. لا مكان للقلب في أزمنة القتل، فالتسامح صفح القلب عن الآثم والمرتكِبِ والقاتل. القلب فينا توأم الثأر، فيما النفس تعرت من روحها ورهافتها وتلبّدت شفافيتها وأسرفت في التشبه بقايين والتفوق عليه.
لا أحد يموت اليوم من الحب. الموت العمومي موت بالقتل، موت من قهر، موت من ذل. هو موت بصيغة المجزرة… لا موت طيبا، ناعماً، كسولا، يدلف إلى وسادة العمر كنعاس. موتنا ههنا والآن، سفك يستف القتلى في عراء الروح.
لا وقت للتسامح أبداً. لا فسحة للصفح. لا فرصة للندم. الافتراس هو حكمة الموت الفظ، ويطيب لكثيرين من المتوحشين الجدد، أصحاب القضايا ومتفرعاتها الدينية والسلطوية، أن يروّضوا حواسنا على اعتبار الجريمة، شأنا عاديا، والقتل أمرا ضروريا، والإلغاء أمرا وجوديا. ولقد تروّضنا، فبتنا نشهد المقتلة ونبكي بعيون من زجاج، بدمع يغيب عنه الماء.
غير أني أهرب إلى حيث للتسامح مكان إقامة بعد. لعله في الماضي أقام روحاً من قرون، ولعله يطأ المستقبل بعد روح من الدم… أمل لا بد منه. أمل سابق لأوانه، فمن دونه، يتحوّل الوطن إلى مقبرة حدودها الجثث وشاهدها بلا ضمير ولا آية الرحمن الرحيم، وباسم الروح… فإلى التسامح إذا، على الأقل، في ميدان القول والكتابة والعبرة… لا بد من تسامح سابق لأوانه، فقط، من أجل أن يبقى في النفس مكان للروح.

II ـ أنا خائف ولست جبانا

لا بأس بالمجازفة. سيقال الكثير، منه: «ما هذا الهراء؟ ما هذا الهذر؟ ما هذا التنبؤ المصطنع؟ هذا كلام فقد عقله. هذا قول لتسديد طلقة في الفراغ». سيدلل الكثيرون على تهافت المحاولة وسورياليتها. سيشهدون بيوميات الجنون الدامي: خطف مطرانين على أبواب حلب، قدما إليها لتحرير كاهنين. هنا ظلامية تكتنف بالآية والألوهة. هنا، إصلاح العالم الدنيوي الدنس باستئصال من فيه.
سيقال أيضا: أتسامُح وطرابلس تشهد أشنع استعراض للتعذيب، في مسيرة قذرة يتولى قيادتها من يتباهى بالفعلة الشنيعة؟ رجل مدمى، متورم العينين، مفجوج الخدين، منتوف الشعر، معلق برسن غليظ كبهيمة، عاري الصدر والساقين والقدمين، مسيّر في وضح النهار أمام جمهور أبله ومسطح و«توريروس»، ينتشي بالنظر إلى جسدٍ إنساني مثخن بكتابات مذهبية، تنز قيحا من الأحقاد والثارات… وحدهم همج التاريخ فعلوها. قبلهم همج الحروب اللبنانية، شقيقة الحروب السورية الراهنة، فعلوها. همج القتلة في صبرا وشاتيلا وتل الزعتر والكرنتينا والنبعة والدامور وقرى الشوف والصفرا وإهدن و… وحدهم وحوش أزمنة «السبت الأسود» والأيام الكالحة في الحروب اللبنانية، فعلوها، جرجروا أحياء في الشوارع. وهذا مثلهم، «نصيري» معروض للفرجة بكامل عدة التعذيب ودلالاتها الفجة… يا لذل المرحلة. يا لخوف قادم إلينا، واثق ببلوغ قلوبنا والإقامة فيها.
يا لسخرية الكلام على التسامح. ها أنذا أعلن بأعلى صوتي: «أنا خائف ومرعوب… ولست جبانا».

III ـ «ليالي بلا نوم»… ولا ندم

يطيب لي أن أستحضر التسامح، في عز المقتلة الكبرى في سوريا، من ضفاف العراق المنخرط في الثأر مرة أخرى، من صراخ اللبنانيين الذين يحضرون المسرح لمأساة الحسين و«الفتنة الكبرى» وما بينهما من قمصان لحفدة عثمان.
يطيب لي، لأن هناك من يسبقني إليه. فبعد مناقشة فيلم «ليـالي بلا نـوم» لإليـان الراهـب، مع طلاب الدراسات العليا في الجامعة اليسوعية، حيـث استعـرض الجميع اعترافات أسعد الشفتري وقيموا صدقيتها ومراميها وتأثيراتهـا، سألـت صديقـي الحزين عبد الله، وهو كاتب ومسرحي أكثر منه طالبا: ما رأيك؟
عبد الله ن. سوري. أرهقه القتل. هدته المجازر. عاثت روحَه أحزانٌ متراكمة. فبلده يُنحر وينتحر. كان متعباً، مترامي السكون. كأنه ليس معـنا، مع أنه كله معـنا، قال: «أنا أفكر بسوريا». بعد حروبكم التي دامت خمسة عشر عاماً، وبعد سنوات خرج من يعترف ويعتذر، وهذا لا يشفي. فكم تحتاج سوريا بعد من القتل ثم القتل، إلى أن يخرج أحد ما ويقول: سامحوني، لقد قتلت.
كان صديقي عبد الله يريد أن يقول أكثر. ولكن الأكثر غير مفهوم وغير عقلاني. فمن يتجرأ اليوم على طلب الصفح. من يريد المسامحة على ما ارتكبته يداه. لا صفح لقايين حتى اللحظة، فهو القاتل الموشوم باللعنة، ونحن كذلك.
إنما، لا مفر من النظر إلى البعيد البعيد. التسامح لغة مستقبلنا، ولقد كان لغة ماضينا، في كثير من عصورنا العربية. ولقد فقدناه، لأننا تورطنا دائماً، بتسليم أمورنا إلى الغرباء… وحدنا، كنا معاً، والاستثناءات موجودة بوفرة، ولكنها عبرت. عندما كنا معاً، بلا أجنبي أو غريب، كان المأثور السائد هو التسامح وإلا كيف نفسر ما يلي:
وسط بيروت، «سوليدير راهنا»، متحف التعدد والتسامح. كنت أسير والصحافية الفرنسية أديت بوفييه في شوارعها، بعد توقيع كتاب لها، سجلت فيه تجربتها في باب عمرو في حمص، وإصابتها هناك وتهريبها من المقتلة، بعملية بوليسية خارقة… ساقنا الحديث من تأمل الشكل إلى فقه المضمون. فليس في أوروبا كلها، ما يشبه مدننا. إنها مدن فقيرة فقيرة فقيرة، لا تعرف التعدد والتنوع والتسامح. تحوّلت معها إلى دليل سياحي: «هذه كنيسة مار مارون، وهذه كنيسة للأرمن، وهذا جامع محمد الأمين، تحفة المساجد الحديثة، وهذه كاتدرائية مار جريس المارونية، وعلى منعطف غير بعيد، كنيسة جاورجيوس الأرثوذكسية، وعلى مقربة من مدخلها كنيسة الروم الكاثوليك، وعلى كتفها الغربي المسجد العمري الكبير، وعلى مقربة من مصافحة مسجد أثري قديم، وفي المقلب الثاني من الشارع، على بعد عشرات الأمتار، على تلة متواضعة ولكن باسلة، يتعانق عن جد هلال وصليب. (عن جد، يعني انه كذلك في الواقع والمشهد الحسي، وليس كما يرد في خطب المنافقين من أهل الدين وأهل السياسة)، وعلى مسافة رمشة عين كنيسة للإنجيليين… ثم… ثم… وكل هذا التراث المجتمع والملثم، يرتفع في مساحة كيلومترات مربعة قليلة…
سألتها: هل عندكم مثل هذا يا أديت؟ نحن بلاد عرفت التعدد من أزمنة، وعرفت التسامـح من القدم. هذا دليلنا. هذه هويتنا. هذا إرثنا المغـروز في قلـب المدينة. رقعة صغيرة كانت يوما ما مدينة داخل أسوارها جمع متعدد، يعج بأمكنة الروح وإطلالاتها الإيمانية المتعددة. هنا الآذان أخ حميم للجرس… هل عندكم مثله يا صديقتي. لا طاقة لكم، برغم الديموقراطية والاخاء والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ومفاهيم التعدد والتسامح، على أن تستقبلوا مئذنة، ان ترتاحوا إلى حجاب، ان تتسامحوا مع صلاة تفيض من باحة المسجد إلى الشارع. بلادكم يا أديت تطلب منا التعدد، وعندنا منه الكثير. وليس عندكم منه سوى التبشير.
هنا أرض كانت ملتقى التعدد والتسامح، قبل أن تنفتق عبقرية باييل وفولتير والموسوعيين الفرنسيين على فلسفة التعدد والتسامح. في تاريخنا موسوعات لا أمثولات.

IV ـ حكايات تروى

إبان «السبت الأسود» وقد تحوّل جوزف سعاده إلى وحش بشري ـ وهذه تسمية أطلقها على نفسه ـ يقتل ويقتل ولا يرتوي، يسفك دماً ولا ينتشي، يثأر ولا يبلغ غايته، يعذب ولا يشفي ساديته، كل ذلك ثأراً لتصفية ولديه بعد خطفهما… إبان ذلك اليوم، فيما «الوحوش» تحتفل بالمقتلة، قرّر بعضهم إهداء الأم الثكلى في بيتها والمفجوعة بولديها، ضحيتين فلسطينيتين لتروي بقتلهما غليلها. خرجت الأم الثكلى إلى الشرفة، فيما الهمج ينكلون بالمخطوفين الاثنين، وصرخت «بالشباب»: أفلتوهما حالاً.
هذا رجل لا يشفيه الثأر، وهذه امرأته يطهرها حزنها من الانتقام. أليس هذا هو التسامح؟ ولكن، من يجرؤ اليوم على ارتكاب هذا الفعل الرحيم.
المشهد الآخر ديموغرافي. لولا التسامح لما كانت منطقة الهلال الخصيب الصاخبة تاريخيا بالأحداث الجسام، مما قبل الاسلام وبعده، متحفا حيا للجماعات الدينية والمذهبية والإثنية. عندنا، عاش جنبا إلى جنب، الاشوري والكلداني والسرياني والمسيحي والمسلم واليهودي والكردي والأرمني ومختبر حضاري لا شبيه له. ألا يسأل أحد عن التسامح بين هذه الجماعات، فيما نجد في مناطق أخرى، صفاء عرقيا أو دينيا أو مذهبيا، أو أكثريات لاغية لأقليات.
هكذا كنا إلى يوم انفجرت هذه المنطقة. التاريخ يؤكد أن سبب الانفجار مرجعه منطق الحماية من الخارج، منطق الاستقواء على الداخل، لحل مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، بقوى خارجية: الفرس في الدولة العباسية، الحماية الأوروبية للأقليات الدينية في مطلع عصر النهضة، وسبب انفراط العقد في جبل لبنان، المسألة الشرقية، وسبب انفراط العقد العراقي، التدخل البريطاني ثم الأميركي، وسبب انفراط واسطة العقد القومية سوريا، هو الاستقواء بالجميع ضد الجميع، في الخارج والداخل.
استبعد التسامح، عندما استبدل بالاستقواء بالخارج. والخارج عدو ولو كان صديقا.
استثناء تاريخي لهذا التراث العربي الذي احتضن مذاهب وطوائف وديانات و«لا فضل لأجنبي على عربي» إلا بالتقوى والانتماء، هو الاستثناء الذي تأسس على قميص عثمان. لعنة التاريخ هذه لا تزال تطارد الجماعتين. لا يزال القميص خفاقاً يطلب الثأر، وكربلاء، يتردد صداها في كل عاشوراء على امتداد القرون.
وحدها هذه اللعنة، شذّت عن منطق الحياة، كأنها الخطيئة السياسية الأصلية، (مع كل التأكيد على أن مقتلة عثمـان ومقتلـة الحسـين، سياسيتـان أولا وأخيراً) التي وصمت جماعة المؤمنين بها، فتبددوا ولم يلتئموا. وتوغلوا في العداء حتى ثمالة الأيام الراهنة والقادمة.
لم تحصل المسامحة بعد، لم يحصل الاعتراف المتبادل بعد. لم يطلب أحد الصفح أو التخلي عن البراءة. معركة الجمل حية ترزق عند كل منعطف. ولذلك:
أنا أصرخ بأعلى صوتي: «أنا خائف من الصراع السني الشيعي». ولخوفي ألف حكاية تطول، من الخليج إلى المحيط.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى