خالد الحروب يفكّك شرائح المثقفين العرب وأدوارهم

مَن هو المثقّف؟ ما دوره، وما التحوّلات التي طرأت على هذا الدور؟ مَن هو المثقّف القلِق، ومن هو المثقّف اليقينيّ؟ وما القلق أصلًا، وما اليقين، في القياس إلى منظومات الفكر والأيديولوجية والأديان والمذاهب؟ هذه بعض أسئلة الباحث الفلسطيني الدكتور خالد الحروب في كتابه الجديد «المثقف القلِق ضد مثقف اليقين» (صدر حديثاً عن الدار الأهلية، عمّان، 310 صفحات)، هنا محاولة لإلقاء أضواء على أبرز ما جاء فيه، وما أراده المؤلف الذي يشتغل- عبر الكتاب- في منطقتين متداخلتين؛ الرؤية النظرية الفلسفية، والنظرة السياسية التاريخية… فالكتاب جاء في قسمين: مفاهيميّ تنظيريّ، ومقاربات وسجالات نقدية وقلقة في موضوعات واقعية عدّة.

عنوان الكتاب لافتٌ لجهة كونه يذكّر بعناوين تتصل بالمثقف، خصوصًا إذا عدنا إلى «المثقف العضوي» عند غرامشي، و«المثقف الناقد» عند إدوارد سعيد وجوليان بندا. نحن هنا حيال «مثقف قلِق»، لكنه كما سيعلن عنه الحروب في كتابه هذا «قلق ومُقلق» في آن. أي أنه مشاكس ومُعارض كما ينبغي لكل مثقف حقيقي أن يكون. معارض للمجتمع وللسلطات ولكلّ ما هو سائد، بما في ذلك الأحزاب والتيارات المنتشرة بلا فائدة، بل هي تعطي الشرعية للسلطات الحاكمة، ما يجعل هذا المثقف المعارض عُرضة للاصطدام بالجميع.

ابتداء، يعرّف الحروب المثقفين بأنهم «الشريحة المتميزة في المجتمع من ناحية امتلاك الوعي التاريخي والتأهيل التعليمي والعمق الفكريّ وتوظيف ذلك في إنتاج الأفكار». والمثقف «الناقد» كما ينظر إليه الحروب هو «مثقّف بلا أي التزامات سياسية أو أيديولوجية مسبقة»، كما أن مثقّفي هذه الشريحة/ الفئة «ليسوا منزّهين عن الانحياز بشكل مطلق»، أما ما يُدعى بـ «المثقف الاجتماعيّ» فهو من يتعامل مع المسائل «وفقًا لمواقف ثابتة تجاه فكرة اجتماعية- سياسية معينة».

ويضيف إلى هذا التعريف تعريفًا لمن هو المثقف العربي؟ فيرى أنه «المنشغل بصناعة الأفكار، ويمتلك الحدّ المعقول من الفكر والثقافة والمعرفة العميقة، ويسخّر تلك المعرفة في الاهتمام بالشأن العامّ والانخراط فيه… ويكون مهتمًّا بتغيير الوضع القائم عبر طرح رؤية تغييرية كاملة أو جزئية، أو الحفاظ على الوضع القائم والدفاع عنه، وفق المثقّف المعنيّ وموقعه وموقفه…». ويشير إلى أنماط من المثقفين؛ الاعتذاري والمهادن والتبريريّ والشعبويّ والمستقلّ. ومن حيث السلوك يشير إلى ما يتسم به الكثير من المثقفين من سمات التردّد والجُبن، التكفير والإقصاء.

وفي طريقه لاجتراح مفهوم جديد، بل مفاهيم جديدة، يذهب المؤلف إلى محاولة طرح أفكار جديدة تستأنف النقاش حول المثقف ودوره، وتأخذ النقاش إلى فضاءات جديدة. يقف مطوّلًا عند مفهوم المثقف العضوي وتنويعاته، هذا المفهوم الذي نحته غرامشي في زنزانته. وينطلق البحث هنا ممّا هو موجود من خلاصات النقاشات العربية والعالمية حول المثقف، نقاشات تتوقف عند تمثّلات وتنويعات المثقف العربي، تبعًا للمدارس الأيديولوجية أو السوسيولوجية، وتطرح مفهوم «المثقف القلق والمُقلق» بوصفه حالة متقدّمة من حالات تحوّل المثقّف تحمل معها تحوّلًا في الدور والتأثير.

مظاهر القلق الفكريّ وجذوره

أصل القلق، كما يراه الحروب، هو في رفض الوضع القائم بمكوناته القاصرة، أو عدم الركون إليه على الأقل، وعدم قبول تبريراته حتى لو كانت منغرسة في يقينيّات أيديولوجية ودينية وإثنية وقبَلية. وحول تمظهرات القلق الفكريّ واللايقين، يرى الحروب أنها ترتبط مع أسئلة الأزمات الكبرى، الفلسفية الوجودية العامة، والتاريخية السياقية الخاصة بمجتمعات محددة، كما هو حال أزمة المجتمعات العربية. ويعرض الحروب أصناف المثقفين، وانتماءاتهم، والتحولات التي جرت في مسيرتهم خلال قرن من الزمن، وخيانة الكثيرين منهم لدورهم و «وظيفتهم» في المجتمع، ويشنّ حربًا شرسة على المثقفين العرب خصوصًا، ليضع غالبيّتهم في خانة «مثقف اليقين»، خانة تضم فئات كثيرة أبرزها ربما «المثقف القطيع»، وهي الخانة التي تضم الكثير من الأصناف.

أما «المثقف القَلق والمُقلِق»، كما يتبدّى هنا، فهو، ابتداء، مثقف مهجوس «بطرح الأسئلة الجديدة، ومساءلة اليقينيّات السائدة، والانتفاض على ركود الأفكار، حتى لو كانت أفكاره هو»، وهو الذي في الوقت نفسه لا يزعم «امتلاك الحقيقة». إنه بذلك نقيض «مثقف اليقين»، والمثقف «الموقِن» الذي هو مثقف «مُهادِن» للسلطات ولسلطة المجتمع خصوصًا، كما أن اليقينيّ هو من «يدّعي امتلاك الأجوبة، ويخضع لليقينيّات الجمعية ولا يسائلها، بل يعمل على تعزيزها…»، وهو «بالغ الحضور عربيًا وتتنوع أشكاله وتحوّلاته، مكرّسًا يقينًا أيديولوجيًا عقَديًا أو ثقافيًا اجتماعيًا، أو سياسيًّا سُلطويًا». وهو، في دفاعه عن ولائه، كثيرًا ما يتحوّل إلى «شاعر قبيلة» حينًا، و «شاعر السلطان» حينًا آخر.

ثمّة أنماط كثيرة من المثقفين «القطيعيّين» يتوقّف الحروب لتفكيكها، وعلى سبيل المثال يطرح نموذج «المثقّف المُهرّج»، وهو نموذج «المتثاقف» الذي يخاطب غرائز الجمهور بلغة «شعبوية»، لغة «يستطيع بها أن يهزم جميع المثقفين الجادّين». وهذا النمط/ النموذج «هاجسه اليقينيّات والدفاع عنها من دون نقد أو مساءلة لها»، بل هو الحارس الأمين للتكلُّس الجمعي والمجتمعي، ويمكن القول إنه نوع من المثقف التابع بولاء أعمى ومطلق لشريحة أو طبقة أو حزب، ومن التيارات كافة، الماركسيّ والإسلاميّ والقومي، أو الحداثيّ حتى، فهؤلاء تابعون تبعية مبتذلة للغرائز الجمعوية، يعتاشون على تأييد الجاهلين لهم ولأفكارهم التي تجد رواجًا، فهم يدغدغونهم بخطاباتهم، فيصفقون لهم.

لا يمكن تقديم عرض شامل للكتاب، فهو مراجعة وقراءة في ما جرى تحديده من تعريف للمثقف ودوره في المجتمع، في الأدبيّات العربية والعالمية المختصّة بهذه القضية، هذا من جانب، لكنه من جانب آخر «قراءة» تحليليّة لواقع المثقفين العرب اليوم، ومواقعهم ومواقفهم ممّا يجري على الساحات العربية من ثورات وتحوّلات. فالكتاب يذهب بعيدًا وعميقًا في العرض النظريّ، ثم يغوص في تحليل الجانب «الواقعيّ» الذي نراه ونشاهده في وسائل الإعلام.

الحروب في هذا الكتاب عمومًا، يصبّ جامَ غضبه، وعن حقّ وموضوعية وبلا أي انفعالات، على المثقفين العرب الذين «يوالون» الدكتاتور والطاغية الذي يقتل شعبًا من المفترض أنه شعبه، ويقوم بتحليل هذه الظاهرة لدى المثقف العربي، أو من يُفترض أنه مثقف. وباختصار، ومن خلال عرض مفهومه للمثقف «القلِق»، في مواجهة «المثقّف اليقينيّ»، يريد خالد الحروب إدانة وضع المثقف العربي عمومًا، لكن من خلال استعراض و (عرضٍ) واعٍ للكثير ممّا قيل حول المثقف عمومًا، ما يجعل من هذا الكتاب «مرجعًا» حول المثقفين، وليس كما يقول العنوان، فالكتاب لا يقف عند ما جاء في العنوان من إبراز للتناقض و «الضديّة» بين مثقف وآخر. بل تجاوز ذلك ليعرض أنماطًا من المثقفين هم حصيلة إفرازات هذه المجتمعات والدول الهشة التي هي صنيعة الاستعمار الغربي (الحديث، وغير العسكريّ)، من جانب، وحصيلة مجتمعات ودول وشعوب تلقي بمسؤولية تخلّفها على هذا الاستعمار، وتجد من المثقفين من يؤيدها في ذلك.

وإذا كان المثقف «الناقد المستقلّ»، كما عرفناه عند إدوارد سعيد وجوليان بندا مثلاً، قد صعد مكان «المثقف العضوي» (الغرامشوي)، كما يبدو الأمر هنا، فهل نستطيع التساؤل ما إذا كان المثقف «القلِق والمُقلق» سوف يصعد ليحتل مكان الإثنين؟ هل ذلك يشير إلى سيرورة ما أو ضرورة لتحوّلات المثقف؟!

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى