“خدمت ملك إنجلترا” رواية التناقضات والعبثية والسخرية
“اسمعوا واعوا ما سأقصه الآن عليكم” هكذا يبدأ الأديب التشيكي الشهير بوهوميل هرابال رواية “خدمت ملك إنجلترا”، رائعته التي كتبها في مطلع سبعينيات القرن العشرين، ومنعت من النشر حتى سقوط الشيوعية في التشيك عام 1989. الرواية التي ترجمها د.خالد البلتاجي يتضافر فيها خيال الأديب مع أحداث تاريخية حقيقية.
“خدمت ملك إنجلترا” رواية مفعمة بالتناقضات والسذاجة، والعبثية، والسخرية والدموع. مواقف متناقضة لا تُصدق. بدايات تقليدية لكل فصول الرواية الخمسة، أو لنقل القصص الخمس التي تشكل الرواية، ونهايات جذابة مدهشة. وبشكل عام ـ وفقا للبلتاجي ـ تعد الرواية شكلا من أشكال الرواية التاريخية. صنف فرعي منها يتتبع نمو شخصية البطل، يحيل هربال من خلالها إلى كتابات أدباء مثل جوته، وتوماس مان، وجونتر جراس وغيرهم. تنعكس في قصة حياة البطل لحظات حاسمة في تاريخ وسط أوروبا في القرن العشرين. يحيكها الراوي على طريقة الأديب المعروفة. طريقة الرغاءين.
ويلفت البلتاجي أن المشاهد الجنسية الصارخة كانت من أسباب المنع الرئيسية عند ظهور الرواية عام 1971، لكنها لم تكن بكل تأكيد متسقة مع الأيديولوجية الشيوعية وقتها. يسخر هرابال في الرواية من كل الأنظمة المستبدة، لا يرى التشيكي بمرآة وردية، ويرفض رؤية الأحداث من وجهين لا ثالث لهما، وخاصة أحداث الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها.
ويشير إلى أن الفصول الخمسة التي تضمها الرواية يبدأها المؤلف بعبارة “اسمعوا واعوا ما سأقصه الآن عليكم” وينهيها بعبارة “هل اكتفيتم؟ هذا كل ما لدي اليوم”. كتب الرواية في مقطع واحد، وبجمل طويلة مركبة. طريقة هرابال المعهودة القائمة على انفراط السرد، وتيار حديث لا ينقطع كما عرفناه من كتابات سبقت هذه الرواية، منها على سبيل المثال “دروس في الرقص” التي صدرت مؤخرًا نسختها العربية بالقاهرة. تتبدل لغة الراوي حسب حالته النفسية: محاولات ساذجة في ارتقاء درجات السلم الاجتماعي تترك أثرها في لغة البطل الراوي الذي يحاول انتقاء الكلمات وتهذيبها، فتختلط الكلمات الدارجة بالفصحى، والأجنبية بالتشيكية.
ويتابع البلتاجي “النص مليء بمواقف عبثية ولحظات مضحكة. هربال يدهش قراءه من خلال صراحته وخاصة فيما يتعلق بالصور الجنسية والشخصيات التي تعبر عن نفسها صراحة، ودون مواربة.
ويقول: الراوي والبطل الرئيسي للرواية يلقب باسم ديتيا، ومعناه “طفل” بالتشيكية. يستدعي اسمه في أنفسنا شعورًا بالسذاجة، ومجازًا يخبرنا أن الرواية تحكى من زاوية صريحة وبسيطة كما يراها طفل. يظل ديتيا مطاردًا طيلة حياته من شعور بالدونية نتيجة قصر قامته، يحاول أن يباري وجهاء المدينة في جاههم ومالهم. يحالفه نجم سعده ويدفعه إلى الأمام إلى مجد ينشده، وثراء طالما حلم به، وحب امرأة جميلة، لكن كل هذا يأتيه في اللحظة الخاطئة. لم يشعر يومًا بأنه سعيد، دائم السعي، وما أن يبلغ هدفه يتأكد أنه مبتغاه لا قيمة له، لا يرضيه. بل العكس، كلما علا وارتفع ازداد تجاهل المجتمع له. يراه إنسانًا انتهازيًّا، يغتنم المواقف، ويقف في صف القوي. التحول الكبير في حياته يبدأ عندما يقع في حب فتاة قادمة من أقلية ألمانية تكره التشيك. ظن ديتيا أن حياته معها ستبدأ من جديد، وسيحقق معها المكانة التي ينشدها. ينهي تجواله في الحياة مقهورًا، منبوذًا، وحيدًا على حافة المجتمع، معزولًا عن العالم الذي طالما أحبه، ينهي تجواله في عالم أصدقائه الوحيدين فيه هم الحيوانات. لا يسعى فيه إلى أن يضارع أحدًا، بل يبحث عن نفسه التي ضاعت منه وافتقدها.
ويؤكد البلتاجي أن مشاعر سلبية ستنتاب القارئ في البداية ضد بطل الرواية ديتيا. وربما سينفر منه البعض لحرصه الشديد على أن يصبح رجلًا ثريًّا ومرموقًا في المجتمع بأي ثمن، حتى لو تنازل عن شرفه وهويته. لكن ما أن نغوص في أعماق الرواية نتأكد أن ديتيا إنسان فشل في حياته. حاول أن يسير ضد طبيعته، فجاءت كل محاولاته بنتائج كارثية. حالفه القدر وحقق له كل ما تمناه، لكنه سرعان ما يتبدد. لا يمكننا في نهاية الرواية إلا أن نتعاطف مع إنسان لم يقدر يومًا على أن يكون سعيدًا، ونتفهم كل سقطاته. ديتيا ليس البطل بسماته القوية الواضحة المعروفة، بل هو بالأحرى تجسيد لمواقف ومشاعر.
ويرى أن تجارب هربال الشخصية كانت ضمن مصادر استلهام قصص الرواية، وخاصة تجاربه في الفنادق والمطاعم الفخمة، وحكايات رئيس السعاة في فندق “مودرا هفايزدا” في مدينة ستِسكا بوسط بوهيميا والذي مازال موجودًا حتى اليوم. كثير من شخوص الرواية كانوا أناسًا حقيقيين من ضمن معارفه، وأسعدهم أن يحكوا له تجاربهم. ويؤكد هرابال في نهاية الرواية أنه كتبها تحت تأثير “الذاكرة الكاذبة” لسلفادور دالي، ونظرية فرويد عن “الشعور المكبوت الذي يجد له في الحديث مُتنفسًا”. هذا دليل واضح على تأثره بالسريالية، ونظرية فرويد التي تعنى بقضية الدافع.
مقتطفان من “خدمت ملك إنجلترا“
عندما جئت إلى فندق براج الذهبية جذبني مديره من أذني اليسرى، وجرني خلفه، وهو يقول: “تذكر أنكَ هنا مجرد نادل صغير! لا ترى ولا تسمع! قل ورائي!”. فقلت إني لا أرى شيئًا ولا أسمع شيئًا في الفندق. فجذبني من أذني اليمنى، وقال: “وتذكر أيضًا أن عليكَ أن ترى كل شيء، وأن تسمع كل شيء! قل ورائي!”. كررت وراءه مصعوقًا بأني سأرى كل شيء وسأسمع كل شيء. وهكذا بدأت العمل. نقف في السادسة صباحًا في صالة الطعام في طابور العرض. يأتي صاحب الفندق بينما يقف رئيس السعاة والسعاة على أحد جانبي السجادة، وأقف أنا، النادل الصغير في آخر الصف، وعلى الجانب الآخر يقف الطهاة، وخدَمَة الغرف، ومساعدو الطهاة، ومسؤولة البار. يتفقدنا صاحب الفندق ليتأكد من أن مآزرنا، وياقات بزاتنا، وبزاتنا نظيفة لا بقع فيها، وأن كل الأزرار كاملة غير منقوصة، وأن أحذيتنا لامعة، ثم يميل كي يشتم رائحة أقدامنا ليتأكد من أنها نظيفة، ويقول “طاب يومكم، أيها السادة، طاب يومكم أيتها السيدات”.
لا يجرؤ أحد بعدها على الحديث معه. علمني السعاة طريقة طي المفارش على الشوك والسكاكين. نظفت منافض السجائر. في كل يوم أنظف سلالًا معدنية لنقانق ساخنة أبيعها في محطة القطار. علمني إياها نادل صغير، لم يعد صغيرًا بعد أن بدأ يعمل على أرصفة القطارات، آه! طلب منهم ذلك الساعي أن يواصل بيع النقانق على الأرصفة! تعجبت كثيرًا من طلبه، لكني فهمت الأمر لاحقًا. لم أرغب فيما عدا توزيع النقانق الساخنة على القطارات. عدة مرات في اليوم الواحد أضع قطعة السجق في رغيف الخبز مقابل كرونة وثمانين سنتًا. أحيانًا يأتي من المسافرين من لا يملك أقل من عشرين كرونًا، وأحيانًا خمسين، ودائمًا ما بحثت عن فكة، رغم أنها في جيبي. واصلت بيع النقانق، المسافر يقفز إلى القطار، ثم يهرول ناحية النافذة، ويمد يده، فأضع فيها النقانق الساخنة أولًا، ثم أعبث في جيبي بحثًا عن الفكة، فيصيح المسافر في كي أحتفظ بها، وأن أعيد إليه النقود الورقية الصحيحة، فأبحث عنها في جيبي على مهل، بينما ناظر المحطة يصفر. فأخرج أوراق البنكنوت من جيبي على مهل والقطار يتحرك، أهرول بجواره. أرفع يدي بعد انطلاق القطار حتى يكاد المسافر يلمسها بيده الممدودة. كان بعضهم يتدلى من القطار إلى درجة أن يمسك بساقيه أحد مرافقيه في الكابينة.
***
بعد الظهيرة أعطوني حصانًا وعربة، وطلبوا مني أن أشتري عنزة، وأعطوني كلبا وولف، فانصرفت بالحصان، ووضعت أمتعتي فوق العربة، واتخذت الكلب صديقًا. اشتريت له شطائر لحم، وانطلقت في طريق صاعد، فظهرت أمامي أشجار تنوب ضخمة، وأشجار صنوبر شاهقة، تتناوب مع أجمات ونباتات فوق أسوار متهدمة، سياج خشبية متداعية مثل كعكة زنجبيل، عصي متفسخة، تتحول إلى أوراق عفنة نبتت فيها شجيرات توت العليق، وطحالب مفترسة. مشيت حسب إيماءات من رأس الحصان. كان حصانًا صغيرًا يشبه أحصنة المناجم. ظننت أن هذا الحصان قادم من أعماق الأرض، عيناه جميلتان مثل أعين الوقادين والعمال الذين يعملون أثناء النهار على ضوء المصابيح والمشاعل. عيون خرجت من باطن الأرض، من عند التدفئة المركزية كي تتطلع إلى أعلى، إلى روعة السماء. عيون ترى كل سماء جميلة. دخلت في أرض مهجورة، ومررت ببيوت العمال الألمان في الغابات بعد أن هجروها. في كل مرة أتوقف عند عتبة بيت وسط أجمات شجيرات توت العليق البرية التي طالت صدري. أنظر من خلالها إلى المطابخ وغرف الجلوس التي غطتها الحشائش. رأيت مصابيح في كل بيت من تلك البيوت تقريبًا. تتبعت الأسلاك إلى أن بلغت نبع ماء، وجدت هناك بقايا محطة كهرباء صغيرة تعمل بمولدات صغيرة، محطات كهرباء صنعتها أيادي عمال جاءوا إلى هنا لتهذيب الغابة، عمال الغابات الذين عاشوا هنا، وأُجبِروا على الرحيل…، أجبروا على الرحيل، وتم نقلهم مثل تلكم الأثرياء الذين تحكموا في السياسة، وعرفتهم عن قرب. الذين تكبروا وتجبروا، وتفاخروا، وتوحشوا، وامتلأوا عتيا، ثم سقطوا إلى أسفل سافلين. تفهمت كل هذا، لكني لم أفهم السبب الذي جعلهم يطردون تلك الأيادي العاملة التي لم يحل محلها أحد.
خسارة أن يختفي هؤلاء العمال الذين لم يعرفوا سوى الكد في الغابات، والحقول فوق سفوح الجبال، العمال الذين لم يجدوا وقتًا كي يتكبروا ويتجبروا. عمال كانوا بالتأكيد بسطاء. هكذا علمتهم الحياة التي رأيتها، وها أنا مقبل عليها. جاءتني فكرة، ففتحت حقيبتي، وأخرجت منها صندوقًا صغيرًا به تلك النجمة الذهبية، وضعت الوشاح الأزرق الفاتح على صدري، فوق معطفي المخطط، ثم انطلقت من جديد. النجمة تتلألأ على جانب معطفي، وأنا أسير على إيقاع رقبة الحصان المتحركة، الذي يلتفت إلى باستمرار لينظر إلى وشاحي، ثم يصهل، والعنزة تثغو، الكلب ينبح سعيدًا، ويكاد يطال وشاحي. توقفت مرة أخرى، وأطلقت العنزة، ثم ذهبت لألقي نظرة على بيت آخر. كانت حانة، نُزل سابق وسط الغابة به صالة فسيحة، يابسة لحسن الحظ، بها نوافذ صغيرة. يبدو أن كل ما فيها على حالته الأولى، كؤوس البيرة فوق الأرفف يعلوها التراب، وبرميل بيرة فوق لوح خشبي بصنبور وذراع لصب البيرة”.
ميدل إيست أونلاين