كتب

خديجة مسروق تسبر أغوار ‘كهف القاريء’

خديجة مسروق تسبر أغوار ‘كهف القاريء’ و تستعين الأجناس الأدبية ببعضها في كثير من الأحيان وتتداخل، والرواية من بين الأجناس الأدبية التي تستعين بغيرها من الأشكال والفنون الأدبية  . وهي سمة برزت بشكل كبير على الرواية  اليوم أكثر من أي وقت مضى، نتيجة لمتطلبات  فرضتها شروط  حضارية تتعلق بالكتابة الأدبية  .

وإذا كان ميخائيل  باختين قد عدّ الرواية جنسا سفليا نبع من الأجناس الأدبية الدنيا تعبر عن الأوساط الشعبية ، فإن الواقع اليوم يفنّد افتراض باختين، فقد اشمخرّ عرش الرواية وتطورت بشكل رهيب، وأصبحت الجنس الأدبي الأكثر قدرة على استيعاب مشكلات العصرو مسايرة أحداثه، وتصوير الواقع ونقله للقاريء بأساليب مختلفة.

ولم تعد مقتصرة على فئة اجتماعية دون غيرها، بل حتى المرأة أصبحت تخوض تجربة الكتابة الروائية إلى جانب الروائي ‘ الرجل ‘  .

الكاتب والناقد العراقي كه يلان محمد من خلال كتابه كهف القاريء يتناول مجموعة من القضايا  تتعلق بالرواية  .

الكتاب مقسم إلى قسمين .القسم الأول  يتضمن مجموعة من المقالات، يقول الكاتب بأنه نشرها في منابر صحفية  مختلفة. يطرح فيها العديد من المساءلات حول واقع  السرد والنقد ومصير الكتابة الروائية . والقسم الثاني عبارة عن قراءات نقدية وتحليلات لنصوص روائية مترجمة لكتاب غربيين ما بين  كلاسيكيين وحداثيين .

الكاتب  كه يلان محمد  في كهف القاريء وتأكيدا على أهمية الرواية يستشهد بقول ميلان كونديرا بأنها حماية لنا من نسيان الوجود .

حاول في كتابه  أن  يبين  مدى استفادة هذا الجنس الأدبي من التقنيات الحضارية المتاحة مؤكدا على وجود علاقة متينة بين الرواية و الصحافة، وركزاعلى ضرورة تمتع الروائي بحس صحافي . وأن يتابع الأحداث التي تنشرها الصحافة للاستلهام من موادها الاخبارية  لصياغة حبكة سردية جيدة  لنصوصه الإبداعية. ويعطي أمثلة لبعض الروائيين الذين استفادوا من الصحافة في صناعة أحداث رواياتهم، كالروائي الفرنسي فلوبيرفي مدام بوفاري  الرواية التي  خلدت اسمه . كانت قصة بطلته قد أخذها من منابر صحافية  حين أذاعت قصة انتحارهذه السيدة .

يعتبر كه يلان أن الصحافيين الذين كتبوا الرواية نجحوا في ذلك، فالكتابة الصحافية حسب رأيه تمكن الكاتب الروائي من اكتساب الخبرة ومسايرة الحدث الراهن . مثل الكاتب الامريكي ارنست همنغواي الذي قام بتغطية وقائع الحرب العالمية الأولى من قلب الحدث .

فهل على الكاتب أن يكون صحافيا ليكتب نصا روائيا ناجحا؟..

إذا كانت الرواية  الكلاسيكية منغلقة على نفسها فإن الرواية الحداثية انفتحت على بقية  الأشكال والأجناس الأدبية  الأخرى .

أصبح الروائي الحداثي يتوسل بعض التقنيات وتوظيفها في نصه لصناعة الحدث الروائي .مؤلف الكتاب يؤكد على أهمية  هذه التقنيات بالنسبة للنص الأدبي، فاستحضار تقنيات السينما والتاريخ واستخدام تقنيات التعبير النفسي للغوص في بواطن الشخصية  باتت من ضروريات الكتابة الروائية .

وتوظيف المقولات الفلسفية لإثارة المزيد من الأسئلة الوجودية كالموت ودورة الحياة والخلود، مكّن الرواية حسب رأي كه يلان  من  التفوق على الفلسفة، مستشهدا بقول امبرتو ايكو الذي يقول بأن الروائي يمكن أن يقول أشياء يعجز  الفيلسوف عن وصفها . ويضيف بأن انفتاح الرواية على فضاءات متنوعة أسهم في تقويض ثنائية النخبة والعامة ..

فهل بامكان أي شخص  أن يكتب نصا روائيا؟ ما هي المؤهلات التي تجعل القاريء روائيا؟ كيف يكتسب الخبرة للخوض في تجربة  الكتابة الروائية؟

أصبحنا اليوم نسمع عن  وجود منتديات لمناقشة تقنيات النص الروائي’ وافتتاح ورشات خاصة لكتابة الرواية يكتسب فيها المشاركون معلومات عن تقنيات السرد… هل تحقق رغبة القاريء في أن يصبح روائيا ؟  ‘ ص 64 .

نتساءل نحن، ما الذي قد تضيفه هذه الورشات للراغبين  في كتابة الرواية ؟ وهل يستلزم  عليهم المواظبة على عديد من  الدروس الخصوصية ليكونوا روائيين ؟ هل تعلم  تقنيات  الرواية  يكفي للمغامرة في كتابة نص روائي مكتملا فنيا ؟   وهل حقا  يمكن لهذه الورشات  أن تصنع  من القاريء روائيا ؟ ..

القاريء حسب كه يلان عليه أن يتحرر من صفة المستهلك إلى حالة المناقش والمتواصل مع صاحب الأثر الأدبي ، فالقاريء عند سعيد بنكراد يعد منتجا للفن من جديد وفق رؤيته الخاصة . وهنا تظهر محدودية الناقد  وذلك  حسب قول كه يلان  حين يقدم القاريء العادي ‘ البسيط ‘ رأيه حول نص روائي عن طريق الاتصال المباشر مع مؤلف النص  عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة اليوم  بعيدا عن وساطة النقد.

فهل يمكن للقاريء العادي أن يؤدي دور الناقد؟ وهل وسائل  التواصل الاجتماعي يمكن لها أن تحقق للكاتب حضوره بين القراء ؟ ..

النقد هو التفاعل مع المعطيات الجديدة والأحداث الراهنة .الكاتب كه يلان من وجهة نظره يرى أن النقد  أصبح مفرغا من الأدوات التي تمكنه من قراءة النصوص .و إذا كان الروائي اليوم استطاع تطوير تقنيات الكتابة الابداعية، والرقي بالرواية لتصبح في أول درجة  من سلم التصنيف الأجناسي ، على الناقد أيضا حسب رأيه أن يواكب تطور النصوص الروائية بالتجديد في الأدوات النقدية لتحقيق الديمومة والاستمرار.

فماهي هذه الأدوات التي يقصدها كه يلان والتي  يمكن للناقد  أن يحافظ من خلالها على مكانته ؟

القاعدة النقدية  التي يجمع عليها النقاد العرب ويعمل بها أغلب المحللين للنصوص الروائية العربية  هي تطبيق المناهج الغربية على تلك النصوص . حيث يتم اخضاع النص العربي إلى أحد تلك المناهج المستوردة دون مراعاة السياقات التي انتج فيها  .

وتنادي بعض هذه المناهج  بعزل النص عن مؤلفه وعن بيئته ذلك لأن البيئة الغربية التي أنتجت تلك المناهج تلغي كل المرجعيات. فالانسان عندهم منذ طفولته ينمو مجردا من انتماءاته بدءا من الانتماء الأسري، فأنشئت مناهجهم تبعا لتلك الحياة .و بالتالي لا يمكن تطبيق تلك المناهج  إلا على نص أنشئ في تلك البيئة .لذلك يعجز نقادنا  حسب  رأي كه يلان على تبيئة تلك المناهج داخل الأدب العربي.

يقول الناقد الجزائري محمد خطاب بأن عبد الفتاح كليطو في تجربة  بحثه في المناهج النقدية الغربية توصل إلى أن الجاحظ في كتابه الحيوان استخدم منهجا أطلق عليه تسمية المنهج الضدي القائم  على الثنائيات الضدية  . حيث  يراه  منهجا منبثقا من الثقافة العربية وأن على الدارسين الاستفادة من هذا الطرح للاجماع على منهج موحد متأصل في ثقافتنا العربية يصلح تطبيقه على النص العربي، بدلا من تطبيق مناهج دخيلة بامكانها أن تقتل النص العربي وتقضي على كل معالمه وفنياته .

فمتى تتوحد الجهود لصياغة منهج نقدي ينبثق من داخل الثقافة العربية يمكن أن يعول عليه في مقاربة النص العربي ؟ ..

مهمة الناقد انتاج نص ثان للنص الأول، فهل هوكما يقول كهه لان  مؤلف لم يحالفه الحظ في كتابة نص ابداعي،  يحاول تعويض تلك الخيبة بالتحليل والاشتغال على نصوص غيره؟ ..

هناك بعض النقاد كتبوا الرواية ومع ذلك لم يُذكروا كروائيين، ارتبطت أسماءهم بتخصصات أخرى كالفلسفة والنقد مثل سارتر وكيركغارد وايكووعبد الملك مرتاض وطاهر بلحيا وغيرهم .

السؤال، لماذا كتب هؤلاء الرواية  ؟ هل هو من أجل التغيير أم من أجل تفنيد للمقولة السابقة  أم لغايات أخرى ؟ هل وفقوا في ذلك ؟ ماذا أضافت تلك الكتابات  لرصيدهم المعرفي ؟ وما الذي أضافوه للقاريء بهذه النصوص الروائية   ؟ ..

القاريء  في قراءته للرواية كما يرى كه يلان استنادا لرأي كولن ولسن يبحث عن  المتعة ومراكمة التجارب والتعلم .

فهل كل مايكتب اليوم من نصوص روائية عربية  جدير بالقراءة؟ وهل يمكن أن يؤسس من خلالها القاريء قاعدة معرفية صلبة ؟

لماذا يكتب الروائي اليوم، هل من أجل الكتابة نفسها أم أجل النجومية وحصد الجوائز؟ يرتفع  المنتوج الروائي في المشهد الأدبي العربي على حساب الجودة . يتساءل الكاتب كه يلان  هل كمية مايقدمه الكتاب يحقق لهم حضورهم  وتواجدهم بين الأوساط الثقافية …أم هي مجرد نجومية مؤقتة ستخبو مع مضي الزمن؟

على القاريء العربي  اليوم استحضار الوعي أكثر من أي وقت مضى في اقباله على على  النصوص الروائية  التي تغرق السوق بكثرتها، وهذا الوعي يتشكل من خلال الحضور الفعلي للناقد الذي تقع على كاهله مهمة التوعية والوقوف في وجه الأبواق التي تعتم بدخانها فضاء الرواية .

الروائي العربي اليوم يقود الرواية إلى مصير مجهول بمرأى من الناقد، وبذلك يمكن لها أن تتراجع أشواطا إلى  الوراء .فأين هو الناقد ؟ لماذا لايقوم بمهته كما ينبغي ؟ لماذا انحسرت مكانته ؟ هل هو إيذان بموت الناقد؟ الكاتب كه يلان ينذر باقتراب موت الناقد ليحل محله القاريء على اختلاف ثقافته…

يمكن أن أن يسقط عرش  الرواية على يد هؤلاء العابثين الذين يحسبون عليها بابتعادهم عن كل ماتحمله كجنس أدبي من قيم انسانية.

فهل حقا سيخبو صوت الرواية؟ أم سيظل صوتها عاليا وستبقى  تتصدر قائمة الأجناس الأدبية بوجود أقلام أدبية واعية جديرة بالانتساب للرواية وجديرة نصوصهم بالنقد وبالتكريم والاحتفاء يكتب لها الخلود على مرّ الأزمان؟..

هكذا أراد الكاتب كه يلان انطلاقا من تصوراته كناقد متبصر في كتابه كهف القاريء  توضيح بعض الاشكالات التي تتعلق بفن الرواية، وطرحه للعديد من التساؤلات ماكان لينتظر إجابة عليها بقدرماكانت تنبيها وتحفيزا لفئة النقاد والقراء الذين يملكون حسا نقديا  كي يتوحدوا، و تتضافر جهودهم النقدية لمعالجة الخلل الذي يعتري واقع المشهد الروائي العربي عموما، وتحليله لنصوص عالمية لكتاب كبارو الوقوف على نقاط القوة في هذه الأعمال  ماهو إلا دلالة على امتلاكه لطاقة نقدية جبارة وملكة قرائية متفردة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى