في خطوةٍ تُثير علامات استفهام حول خلفيّاتها وأسبابها، أقدمت الصين على نشر خريطة رسميّة لها، ولكن هذه الخريطة يبدو أنها أظهرت سيادة الصين على مناطق مُناطق مُتنازعٍ عليها، الأمر الذي دفع بعض الدول للاحتجاج، مثل الهند، ماليزيا، والفلبين.
وكان لافتاً بأنه رغم مواقف الدول المذكورة الاحتجاجيّة على الخريطة السياديّة الجديدة للصين، بأن الأخيرة لم تتراجع عن نشرها، أو عزت أسباب نشرها للخطأ، بل دعت ضمن تصريحات أدلى المتحدّث باسم وزارة الخارجيّة الصينيّة وانغ ون بين في مؤتمر صحفي، تلك الدول المعنيّة بالخريطة “إلى النظر إليها من مُنطلق موضوعي وعقلاني”، ما يشي بأن الصين لعلها لم تعد تنظر للمناطق المُتنازع عليها مع تلك الدول، سوى أنها ضمن حدود سيادتها.
وتابع المتحدّث الصيني بأن موقف بلاده بشأن بحر الصين الجنوبي ثابت وواضح، السلطات المختصّة في الصين تنشر بشكل روتيني خرائط قياسية من مختلف الأنواع كل عام بهدف إتاحة الخرائط القياسية أمام جميع قطاعات المجتمع وزيادة الوعي العام بالاستخدام الموحد للخرائط.
الخريطة الصينيّة الجديدة شملت الخط U، وهو الذي يُغطّي 90 بالمئة من بحر الصين الجنوبي، هذا الخط تحديدًا، هو موضع النزاع، ومن أكثر الممرّات المائيّة اختلافاً في العالم، وترى الصين من وجهة نظرها بأن هذا الخط مبنيٌّ على خرائطها التاريخيّة، ولكن هذه الخريطة بالخط الشهير رفضتها الفلبين، وتايوان، وماليزيا.
وفي المواقف الرافضة قالت وزارة خارجيّة الفلبين: “إن هذه المحاولة الأخيرة لإضفاء شرعية على مزاعم الصين بشأن سيادتها وولايتها على الممتلكات والمناطق البحرية الفلبينية لا تستند إلى أساس قانوني”. وأضافت وزارة خارجية ماليزيا في بيان أن الخريطة الجديدة لا تملك أية سلطة ملزمة على ماليزيا، التي “تعتبر بحر الصين الجنوبي مسألة مُعقّدة وحسّاسة”.
وهذه ليست المرّة الأولى التي تنشر بها الصين ما تصفه بخريطتها الوطنيّة، فهي تفعل ذلك بانتظام منذ العام 2006، ولكن بكين ومع مُرور الأعوام تقوم رويدًا رويدًا بتصحيح كما تقول “الخرائط الإشكاليّة”، ولعلّ خريطتها الأخيرة الأكثر إشكالاً، وجدلاً، وامتعاضاً بالنسبة للدول المُنزعجة حول ضم مناطق مُتنازع عليها للسيادة الصينيّة، فيما تُصر الصين على أنه نشاط روتيني، وهو نشاط روتيني بالفعل، ولكنّه لم يشمل سابقاً المناطق البحريّة، التي دفعت ماليزيا لرفض ما وصفته بالضم الصيني المزعوم للمناطق البحريّة الماليزيّة، ومثلها الفلبين التي رفضت هي الأخرى محاولة من جانب بكين لشرعنة سيادة الصين المزعومة على مناطق بحرية فلبينية، لا يوجد لها أساس وفقًا للقانون الدولي على حدّ تعبيرها.
الهند كانت أوّل دولة تعترض على الخريطة، الثلاثاء الماضي، عندما قدّمت احتجاجًا قويًّا على إضافة ولاية أروناجل برديش الهنديّة ومنطقة أكساي تشين المُتنازع عليها إلى أراضي الصين.
طالت الخريطة أيضًا موسكو وذلك بعدما أظهرت الخريطة جزيرة بولشوي أوسوريسكي، الواقعة في نهر أمور جُزءًا من الأراضي الصينيّة، تلك الجزيرة التي تتنازع عليها كلا من بكين وموسكو منذ القرن التاسع عشر، حتى اتفق البلدان على تقسيم المنطقة في مُعاهدة عام 2008، وفي حين أن المعاهدة أعطت الجزء الغربي من الجزيرة للصين، فإن الخريطة الجديدة تظهر الجزيرة بأكملها أراض صينيّة.
ونظرًا للتحالف الروسي- الصيني في ظل الحرب الأوكرانيّة القائمة، فإنه من المُستبعد أن يكون للخريطة المنشورة تأثيرها السلبي الكبير على علاقات موسكو، وبكين، وتحديدًا أن روسيا لم تُصدر بياناً شديد اللهجة ينتقد الخريطة الصينيّة الجديدة بل وصمتت، وستلجأ موسكو لتذكير حليفها خلف الستار وفق التقديرات بمُعاهدة الاتفاقيّة عام 2008، فيما توجّه الرد الصيني حصرًا للدول الثلاث المُعترضة على الخريطة الروتينيّة للسيادة وفقاً للتوصيف الصيني.
وتُوضع علامات استفهام حول الأسباب التي تدفع الصين لإثارة امتعاض عدد من جيرانها، وقبل أيّام من انعقاد قمّة مجموعة الـ20 الأسبوع القادم في نيودلهي.
اعتراض الدول الرافضة للخريطة الصينيّة، اقتصر على الاحتجاج الدبلوماسي، والسؤال التالي ماذا ستفعل تلك الدول حال أعلنت الصين رسميّاً حقها التاريخي كما تصفه على بحر الصين الجنوبي، حيث الأخير لا تقتصر المُنافسه عليه في سياقات موارد بحريّة، بل نزاعات سياسيّة، واقتصاديّة، والسلطة، والنفوذ، ويمتد لإمكانيّة الصدام بين بكين، وواشنطن، إذا قرّرت الأخيرة الدفاع عن حقوق الدول المُعترضة، وتحوّلت السيادة الصينيّة من الخرائط الروتينيّة، إلى فرض حالة واقعيّة.
هذه الخريطة الصينيّة، وإن كانت تتعدّى على سيادة دول مُجاورة كما تقول هذه الدول، فإنها تُظهر تزايد الثقة الصينيّة بقوّتها، وبلادها، وحضورها، وتُذكّر العالم بأن حق الصين في بحر الصين الجنوبي يعود لأكثر من ألفيّ عام، ونحن اليوم نعود لأخذ حقوقنا تقول الصين.
هذا التحدّي الصيني، مُوجّه ليس فقط لجيرانها، بل يطال الولايات المتحدة الأمريكيّة التي تتحدّى الصين زعامتها للعالم، الولايات المتحدة رسمياً بأن بحر الصين الجنوبي، بموجب القانون الدولي، هو مياه مفتوحة يُطلق عليها اسم “المشاع البحري لآسيا”، أي لجميع الدول، وتوافقها في ذلك دول مثل أستراليا وبريطانيا واليابان، فيما تؤكد وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، أن الصين ليس لديها أي أساس قانوني في مطالبها التي تُشكّل أكبر تهديد لحُريّة البحار في العصر الحديث، وهو ما يطرح تساؤل حول قُدرة الولايات المتحدة الفعليّة على كبح نفوذ الأخيرة الذي يتعاظم، وبدأ يطال سيادة دول أخرى حليفة لواشنطن، في حين تُظهر بكين نواياها المُتحدّية فيما يبدو بدون تحفّظ.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية