«خطة مارشال» أوروبية لمواجهة اللاجئين: تمويل «السدود» تحسباً لحرب سورية طويلة!

مثلما صار ثمن جواز سفر اللاجئين السوريين امتيازاً، ليائسين من جنسيات أخرى، ربما لن يطول الوقت قبل أن تفكر دول «عالمثالثية» باستيرادهم. لما لا؟ ليس فقط لأن تركيا تبتز الأوروبيين بهم على أكمل وجه. الآن جاء الدور على الأردن ولبنان، فالاتحاد الأوروبي يفكر بما يشبه «خطة مارشال»، لدعمهما مقابل إبقاء اللاجئين: سواء كان ذلك تحت عنوان تحسين ظروف حياتهم بما يقلل حوافزهم للمغادرة، أو مقابل اتفاقات ضمنية بتشديد الرقابة لاحتجاز اللاجئين بما يمنع توجههم إلى أوروبا.

تواصل دول الاتحاد الأوروبي تعاملها مع أزمة اللاجئين بمنطق الآلة الحاسبة. صارت مقتنعة الآن أن الخسائر المالية والسياسية، جراء فوضى «العلاجات» المنفردة، ستكون فوق الاحتمال. هكذا ستكون السياسة المشتركة الجديدة الممكنة، بعد فشل متواصل في الاتفاق، مبنيةً على اقتناع دول التكتل بالكلفة الكبيرة على الجميع.

تقود هذه الاستراتيجية الجديدة ألمانيا، التي تبقى وجهةً أساسية لسيل اللاجئين، بعدما وصلها أكثر من مليون لاجئ العام الماضي. الجوهرالمالي، الرشى الكبيرة، للدقة، كانت واضحة من مصدر إعلان تلك الاستراتيجية: وزير المالية الألماني فولفغانغ شوبل. على هامش منتدى «دافوس»، قال السياسي المخضرم: «ما هو أكثر أهمية لنا كي نستخدمه الآن هو أن نستثمر المليارات في المناطق التي يأتي منها اللاجئون»، معتبراً أن الهدف المزدوج من ذلك هو «تقليل الضغط على الحدود الخارجية لأوروبا، وضمان ألا تتحول أوروبا إلى حصن».

ما يشير إليه شوبل لم يعد خيالات متشائمٍ جامح، بل هو واقع قائم يعارك معه السياسيون الأوروبيون يومياً. هناك من قال أكثر من ذلك. رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أعلن، قبل أيام، أنه في حال لم يُتفق على سياسة موحدة تنهي الخلافات فإن «منطقة شنغن ستنهار خلال أشهر». العديد من الدول تخلت «مؤقتاً» عن تطبيق هذه الاتفاقية للتنقل الحر في فضاء بلا حدود، فارضةً الرقابة الحدودية إلى «أجل غير مسمى»، كما قالت وزارة داخلية ألمانيا التي تفرض الرقابة أيضاً.

لكن لتلك السياسات الطارئة، مع خلخلتها نظاماً مبنياً بشكل محكم، ضرائبها الكبيرة على الأوروبيين أنفسهم. التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم يعتمد بشكل كبير على سوقه الداخلية الهائلة، بحدود 500 مليون نسمة، بما في ذلك تنقّل البضائع بين دوله من دون عوائق حدودية.

المفوضية الأوروبية قالت إن مجمل الخسائر المتوقعة من تواصل الرقابات الحدودية الحالية، سيقارب ثلاثة مليارات يورو سنوياً. كيف ذلك؟ الخسائر ممكنة في كل اتجاه. هناك 24 مليون رحلة عمل تسجل سنوياً. يعبر يومياً بين الدول الأوروبية نحو 1.7 مليون مواطن بانتظام، غالباً بشأن أعمالهم. تسجل شاحنات التجارة ما يقارب 47 مليون عبور، بلا حدود، لذا سيكلف تأخير كل شاحنة لمدة ساعة انتظار قرابة 50 ألف يورو سنوياً. تكلفة الرقابة الحدودية مؤخراً، على الجسر بين الدنمارك والسويد، بلغت في أقل من أسبوع 300 مليون يورو.

وسط كل تلك الإحصاءات، قال رئيس المفوضية جان كلود يونكر إن الضرر على النمو «لا يمكن حسابه»، نظراً لحجمه الكبير. حذر دول الاتحاد المستهترة بتلك العواقب، قائلاً إنه «إذا أراد أحد إنهاء شنغن، فسيفعل المثل بالنسبة للسوق الأوروبية الداخلية». طبعاً الخسائر السياسية ماثلة وتتزايد، خصوصاً مع صعود أحزاب اليمين المتطرف المعادية بمجملها لمشروع الاتحاد الاوروبي لمصلحة عودة قوة الدولة الوطنية.

كل ذلك دفع الأوروبيين، مجبرين، لمد أيديهم إلى جيوبهم بسخاء، أو ببخل أقل، للدقة. المحطة المنتظرة لمعرفة ماذا سيدفعون بالضبط هي مؤتمر لندن للدول المانحة، لمواجهة تداعيات الأزمة السورية.

الأردن لديه حسابات معتبرة، على ما يبدو، لهذا المؤتمر. آخر زيارات الإعداد للمؤتمر حملت وزير خارجيته ناصر الجودة إلى بروكسل، حيث عسكر لساعات لإعداد لائحة المطالب الاقتصادية، خلال اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين. يبدو أن النقطة الأبرز هي منح عمَّان وضع شراكةٍ تجارية مميزة، عبر تسهيل وصول الصادرات الأردنية إلى الأسواق الأوروبية، طبعاً مقابل تحسين أوضاع ما يزيد على 600 ألف لاجئ تستضيفهم.

لبنان لديه أيضاً مشاريع استفادة مشابهة. رئيس الوزراء تمام سلام زار بروكسل، يوم الخميس، قبل توجهه إلى دافوس. التقى رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، ليَحضر الإعداد لمؤتمر لندن كملف أساسي. توسك قال بعد الاجتماع إن «الاتحاد الأوروبي ملتزم بدعم لبنان من أجل مواجهة مستدامة لتداعيات الأزمة السورية».

أوساط ديبلوماسية تابعت الاجتماع قالت لـ «السفير» إن لبنان يحضّر «ورقةً تتضمن مجموعة خيارات يمكن أن تساعد الاقتصاد اللبناني واللاجئين والمجتمعات المستضيفة لهم». إنها حزمةُ مشاريع مقترحة، سيطلب من مؤتمر لندن تمويلها. القائمة تشمل إجمالاً «مشاريع البنية التحتية، مشاريعاً زراعية وتبادلاً تجارياً، واستثمارات مطلوبة في كل القطاعات التي تأثرت» بوجود ما يزيد على مليون لاجئ سوري.

المطلوب بالمقابل واضح. الترجمة مترواحة، بين مصطلح «تقليل الحوافز» لمغادرة اللاجئين، وصولاً إلى تشديد إجراءات الرقابة على منافذ مغادرتهم إلى أوروبا. المصادر الديبلوماسية قالت إن لبنان أبدى استعداداً لتبني إجراءات «لتحسين أوضاع اللاجئين»، معتبراً أن المسؤولين اللبنانيين قالوا «يمكن البحث في كل ما من شأنه تحسين أوضاع اللاجئين، تحت شرط الطابع المؤقت لإقامتهم، بانتظار أن يعودوا حالما تسمح أوضاع بلدهم».

لكن الكرم الأوروبي يأتي أساساً لأنهم لا يتوقعون أوضاعاً سانحة قريباً، ما يعني تواصل التدفقات، خصوصاً لجهة الحرب بوصفها المحرك الأساسي للجوء. وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني قالت قبل أيام للبرلمانيين الأوروبيين إنه برغم بعض «أسباب الأمل، لكن الطريق (للتسوية السورية) ستكون طويلة وصعبة، فأرجوكم لا تتوقعوا أي نقطة انعطاف دراماتيكية في أي وقت قريب».

كان يمكن للأوروبيين السخاء حينما ناشدت الأمم المتحدة، بما أنها جهةٌ لها اعتبارها الدولي، المساعدة مراراً. العام الماضي، وجهت المنظمة نداءات للحصول على 8.4 مليارات دولار، لكنها ووكالاتها لم تحصل سوى على 3.3 مليارات دولار. البرلمان الأوروبي انتقد مراراً تقاعس الدول الأوروبية عن الوفاء بتعهداتها المالية. ليس معروفاً كيف سيكون رد حكومات الاتحاد، في مؤتمر لندن، على نداء الأمم المتحدة لجمع 7.7 مليارات دولار: ستخصص لمساعدة 13.5 مليون سوري في الداخل، نازح أو محتاج، إضافة إلى نحو 4.7 ملايين لاجئ في الخارج. لكن الأوروبيين يرددون بأنهم «المانح الأكبر» في الأزمة السورية. هنا لا يستخدمون الآلة الحاسبة، لا يريدون من أحد تذكيرهم بأنهم التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم، ويجنون ربع الدخل الإجمالي على سطح الكرة الأرضية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى