خفقة القلب الأولى (1)
لم أر دفتري منذ أكثر من عشرين عاماً ، تغصّن غلافه ، تمزقتْ جوانبه، وريقاته أصبح لونها أصفر تفوح منها رائحة قرن مضى ! بقي وفياً ليّ أكثر من وفاء الكثير من أصدقائي! فما أشدّ صبره عليّ، فقد كان في انتظاري حتى أفتح صفحاته وأسترجع ذكرياتي التي كنت في شوق للرجوع إليها، ورؤية شريط ذكرياتي يرجع مرة أخرى! فالشوق هو الذي ألجأني إليه وذكرني بمكانه في غرفتي! أطلتُ النظر إليه ، فازدادت دقات قلبي ، وأخذ يجول في خاطري صوت يصرخ في داخلي ويقول لي : اقرع باب دفترك، افتح الدفتر، ولا تتردد! لمستُ الدفتر بيدي لمساً خفيفاً ، كأنما أريد أن ألاطفه وأبارك عليه، فقد اتخذته صديقاً أميناً ، ولا بد بين الصديقين من تبادل الودّ والثقة وحتى الأسرار! أخذت نفساً عميقاً، وفتحتُ الدفتر حيث توقف بي الحبر. نظرتُ إلى الأوراق التي تغير لونها وبهتت حروفها وتاهت سطورها بين الألم والوحشة ، نفضت تراب الأعوام عن الورق، وبدأت أقلبّ صفحات حبي وأسترجع شريط ذكرياتي، أزيلُ غبار السنوات وتراب الأيام من بين أوراقه، وأوقظُ الكلمات النائمة على سرير السطور بعد ربع قرن من الصمت. أمضغ ثمار الذكرى المجففة مستعيداً طعم ما بقي لي من ذكريات، وأمتصُ رحيق ما كنت قد كتبته عن حبيبة القلب ! كان ملمس الورق ناعماً بين يديّ، يا الله ..أراها تخرج من بين السطور بكامل أناقتها، تُمسك بالفرح، تتراقص فوق الحروف، تقفز فوق النقاط والفواصل برشاقة، تصل إلى كلمة من أربعة حروف، تجلس فوقها وتغيب إلى دنيا أخرى .
أجدها تسكن داخل دفتري، ما زال الحب يعيش ممسكاً أنفاسه، ومازالت الكلمات جالسة باطمئنان على السطور، تستنشق أنفاسها، طازجة خرجت لتوّها من التنور! تسارعت أنفاسي وهي تتنقّل بين السطور، ووجدتُ نفسي في موطن الذكريات الراقدة في أعماقي والتي استيقظت فجأة، فتجددتْ في قلبي أحداثها.. تذكرتُ أنني كتبتها حين قررتُ أن أحتفظ بعطر ذكريات الماضي التي لا أريد أن أزيلها من حياتي، ولا أن تتسلل من شقوق ذاكرتي .. من يستطيع أن يدفن ذكريات حياته ، من يستطيع أن ينسى الماضي بكل مشاعره وأحاسيسه، ومن يستطيع أن يمحو من ذاكرته لحظات الحب الأولى في حياته ، والذاكرة الأولى لقلبه ؟! أحسستُ بمودة للماضي، وكأنني أتفهم لأول مرة لماذا البشر بحاجة إلى ذكرياتهم وماضيهم ؟ كلنا يستمتع بتلاوة الماضي، ففي حياة كل إنسان لحظات عالقة في حبل الذاكرة، تأبى أن تغادرها، لحظات فريدة ستظل محفورة في ذاكرة القلب، ذكريات لم أكلّف نفسي عناء البحث عنها في جذور ذاكرتي، لا أفقر من إنسان لا ذكريات له، الفقر ليس فقر الجيوب، إنه فقر القلوب، فالجيوب الخالية قد تمتلئ ذات يوم ، أما القلوب الميتة فمن الصعب أن تمتلئ بالحب والمشاعر والأحاسيس. الثراء ليس في توسد الممتلكات، بل في توسد الذكريات التي نستودعها في ذاكرة القلب ! رحتُ أكسر حصالة العمر، أفتش بين قشورها عن الزمن الذي ولىّ، وأُفرغ خزانة ذاكرتي، وأنبش في ركام مرّ عليه ربع قرن من الزمان، وأستحضر ذكريات الماضي الجميل، بكل تفاصيلها الصغيرة المنسية التي تجعل الحياة تدّب من جديد في قلبي والتي تبعث على الحزن اليوم. مازالتْ السطور الأولى التي كتبتها في الذاكرة كما لو كُتبت بالأمس ! ما كتبته من الأول ، في أول السطر وآخره يبقى معي مثل التاريخ والذكريات والطفولة وصورتي القديمة قبل التجاعيد وانحدار الخطوط على وجهي وجسدي! أجدني أتقدم في العمر، أتراني كبرت حقاً ؟ أجل كبرت…اقترابي من حافة الموت جعلني أفكر بالزمن الذي لن يمنحني الوقت للتفكير بحياة أخرى، وعودة الأيام السابقة، ولم يبق لي سوى ذكريات قديمة أستعيدها بتلذذ، فقد وجدتها فرصة أستعيد فيها قراءة كتاباتي القديمة وأضيف إليها مشاعر جديدة لم أعد أحتملها في قلبي. أشعر بالسعادة لوجود قطعة ذكرى أحتفظ بها في دفتري وفي حقيبة قلبي. الكتابة عالم نصنعه بالحبر والورق، هي تحريك المفردات بشكل يعطيها القدرة على التعبير الكامل لمخزون النفس، هي كشف الأحاسيس في تركيب الجمل البصرية السمعية واستنطاق الصوت الداخلي للكلمات، لولا تلك الفتاة ما تحرّك القلم فوق الورق لكتابة هذه الثروة من الحروف والكلمات التي أكتبها الآن، هي التي فتحت شهيتي للكتابة ، فالتحدث عنها طعاماً شهياً لي، أعترف بأنها أيقظت فيّ شهوة الكتابة، وبأن لها تأثير على كتاباتي، وبأن الصفاء الذي يجري بين السطور إنما ينبع من عينيها، وبأنني أملك الكلام عنها وعن نفسي ، وأستمطر منها الوحي والالهام ، فكل انسان يصبح كاتباً إذا لامس قلبه الحب وعذوبته ! كانتْ مغامرة حقيقية سقتْ قلبي نوعاً من الحياة لم أتذوقها من قبل ، ولن أتذوقها من جديد أبداً، أخشى مرارة الفشل وأن أكون قد طرقت باباً لا يستجيب لطرقاتي، كدتُ أتعثر في كتابة قصة حبي والتي وضعها الأدب في طريقي ليختبر قدرتي على الكتابة! لا أنكر أن عواطفي تركتْ بعض الأثر بين السطور قد لا يلمحه أحد سوانا ، إن مجرد تصوري أنها ستقرأ كلماتي جعل نفسي تخرج عن طوعي وتسكب عبارات تسيل رقة وعذوبة! لم يكن في ذهني أن أكتب عنها فقد بقيت في دفاتري، كانت دوماً معي ، مقيمة في دمي، مستوطنة في قلبي ،لكن استحضار ما كان موجوداً معي على الورق أمر صعب وشاق ، كنت أعرف أنني لن أوفيها حقها ، لكن الأمر يستحق المحاولة ، كانت تلك الأيام التي كتبت عنها أشدّ خصوبة وثراء بالنسبة لي.
تهجم عليّ أجمل الذكريات ، صور الحب تداعب مخيلتي ،أرى ذاكرتي مفروشة وزاخرة بأحداث وتفاصيل ومشاعر وعواطف ، أشياء كثيرة لها طعم الفرح والاشتياق ، لم أستطع أن أسجن تلك المشاعر بداخلي فقررتُ أن أطلق لها العنان وأبوح بها مهما كانت العواقب! أحببت توثيق أسرار حبي ، فالكثيرون من البشر لم يكتبوا قصص حبهم ولكنهم تناقلوها شفاهة ! سألت عقلي في أكثر ساعات الليل هدوءاً : ما الذي جعلني أعود إلى تلك الذكريات البعيدة ؟ إنه الماضي ، له رواسب يستخرج منها اللؤلؤ والمرجان مثلما يستخرج النفط بعد رواسب السنين ! أينبغي أن أكتب ؟! أجيب نعم ..أشعر أن بيني وبين دفتري ذبذبات تعدني بفض بكارة أوراقه البيضاء الملساء..أكتب لنفسي وللآخرين معاً ، مهمتي الآن ملء الفراغ في قلبي وفي جسدي ، أرى ألا يخفي الإنسان شيئاً بعد الخمسين ،فعمر الإنسان بقدر عمر المرأة التي أحبها ، لا معنى بعد هذا العمر للأسرار ولا لإخفاء أي شيء! قلبي يحدثني ألا أبوح بأسراري ، لم أطاوعه وقلت له أن الحب لا ينبغي أن يكون منسياً أو سراً، دع آلاف البشر تتقاسم تجربتي وتعلمهم معنى الحب ، دعني أطلق سراح ذاكرتي وألقي بأسراري التي شاخت على صفحاتي ! لا أدري لماذا ترتجف يدي وأنا أكتب عنها، لكأنني أغوص في الحرام ! مع أني متأكد أن لكل إنسان تجاربه الخاصة به ، لكني أؤمن أن التجربة الصادقة يجب ألا تخبأ في صناديق القلب المغلقة ، وأن ُتكتب وُتقال والانسان مرفوع الرأس دون استعمال الرموز والنور الخافت والاسم المستعار! مخيفة هي الكتابة ، الأشياء الحميمة نكتبها ولا نقولها، إنها اعتراف صامت ، تجعلنا نتورط ونرتكب خطايا ونشعر بالذنب، إنها تأخذ موعداً مع الأشياء التي نخاف مواجهتها أو إخراجها من المناطق السرية والمشفرة في ذاكرتنا ! أكسرُ صندوق ذاكرتي وأفرش المكان بالأسرار ، لم أكن أدري أن الوقوع في حبال الكتابة قد كشف أسرار قلبي أمام قلمي وأصابعي وأوراقي وجعلني أعترف بجريمة حبي! أنا لست أول ضحايا الحب ، فأنا من برج الحوت ، إنه برج يشكل أكبر نسبة من مرتكبي جرائم الحب في العالم!! ذاكرتي مفروشة بالذكريات لكنها لا تصلح للإيجار.. لأول مرة أرتبّ فوضى ذاكرتي ،وأفتح قلبي لنفسي وقراّئي، وأقلّب صفحات من دفتر الماضي ، صفحات مشغولة بمفردات العمر والذاكرة ، إنها أوراقي جمعتها على مدى عشرات الأعوام، ووضعتها في متحف ذاكرتي المخصص لها وحدها، وأقمت عرساً للكلمات أنتقي فيه أجملها لأسكبها على السطور، وأنسى الزمن الزاحف فوق وجهي وخلايا جسمي وجسد ذاكرتي وغرف قلبي !
أكتب من تجارب شخصية عميقة مررتُ بها وليس من الخيال ،فأنا أملك مؤونة ثلاثين عاما من الذكريات ! أكتب بكلمات ساخنة يلّفها الشوق والحنين ولوعة الفراق، لأن حباً في داخلي تراكم عبر الأيام، وملأ جيوب قلبي ، وتكدس بمرور السنوات ، وأختصرُ تجربتي على صفحات قلائل، فمن حقها أن تعرف ما في قلبي ، إنه الحنين تشعله التفاصيل المستوطنة بالذاكرة المليئة بها ومنها ، إنني محكوم بالوفاء لذكريات تعيش وتعشش في داخلي، إنه داء الوفاء للماضي، وحده الوفاء يملك عداداً دقيقاً للزمن ..إنه النخاع الشوكي للذاكرة !على مدى عمر من الكتابة كتبت هذه الصفحات، هي ثمار أفكاري ، ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب، قد يزعل النحل عندما نقول : الفكر أيضاً ينتج العسل !