خفقة القلب الأولى (2)
الحب من أهم أدوات الكتابة ، عليكم قبل قراءة كتاباتي أن تكونوا مهيئين روحاً وذوقاً للاستمتاع بالكلمات وتذوقها بلسانكم :
ماذا أقول للإنسانة التي تشغل بالي الآن ؟ كيف يمكن الحديث عن أول حب من دون تلك الرجفة في اليد والخفقة في القلب؟ أول حب هو أجمل حب، لا يمكن أن أنساه ، هو انفتاح القلب لأول مرة على مشاعر جميلة ، وهو تغيير تاريخ الميلاد. ما أروع أن يعيش الانسان لهب الحب ويستنشق عطره ! كم واحداً منا مازال يتردد على منزل حبيبته الأولى، فالمرور أمام بيتها يعتبر إنجازاً عاطفياً، وعندما يصل إلى منزلها يخفق قلبه ويتأكد بأنه وصل إلى المكان المطلوب، فيبتسم ويتألم في الوقت ذاته، يتتبع أخبارها بحب خفي صامت.. أين ذهبتْ وكيف أصبح شكلها؟ هل هي سعيدة مع زوجها أم لا؟ كم عدد أبنائها وما أشكالهم وما أعمارهم وماذا يعملون ؟وهل يشبهونها ؟! يتعرف على الأماكن التي ترتادها ليراها من بعيد، وإذا صادفها تضطرب ضربات قلبها، وتتعثر خطواتها، وتفقد السيطرة على عواطفها ومشاعرها ويجفّ صوتها وتكاد تعجز عن النطق!
فتحتُ علبة السنوات أتذوق ما كتبتْ ، أخذتُ أتأمل السطور وأمرّر يدي على الكلمات والأحرف المستلقية عليها وكأنني ألمس أجزاء جسدها. أحسّ شوقاً مع كل سطر كتبته ، أشمّ عبيرها بين السطور ،وسرعان ما اشتعلت ذكرى حبي القديم ، وخُيّل إليّ أن أحداً استعار ذاكرتي ، فما زالتْ الصفحات تحتفظ بأسراري المدفونة في مكان عميق بداخلي.. تنفستُ بقوة، تلاحقت أنفاسي ،طردتُ الهواء من صدري، واستعدت أنفاسي من جديد ! عدتُ إلى سلة ذكرياتي التي أفرغتُ فيها مساحة كافية مخصصة لها ، وشعرت كأنني استردت شيئاً ظننت أنه ضاع مني، وعمراً اغتصب من سنين حياتي ! تذكرتها وعرفتُ أن للذاكرة عطراً، وأدركتُ أنني بحاجة إلى من يوقظ ذاكرتي من سباتها ! ذاكرتي الآن في أقصى حالات التخدير، ذكرياتي معها تهجم شلالاً يجرفني إلى حيث لا أدري من المنحدرات، بماذا سأكافئ ذاكرتي التي احتضنت طيفها طيلة تلك السنين ؟!
الآن بعد أن تخمرت أشواقي في الحروف، سأتعارك معها، وألقي بما أحب من فاكهة الكلمات، وألملم مشاعري وخواطري ، وأفضي بسرّي على الأوراق المنثورة أمامي، وأفرغ شيئاً من شحنات اشتياقي على صدور الصفحات، وسأستجيب لأوامر قلبي الذي قال لي: افتح جيوب قلبك، فكم من الحب يذهب ويذبل في الكتمان، ويبقى في سجن الضلوع، فالنضال من أجل الفوز بقلب امرأة والحفاظ عليها مدى العمر هما أكبر قضايا الرجل وأجملها على الإطلاق ! في زماننا الجميل ، كان الخس أكثر طراوة، والفتيات أكثر حياء وأنوثة ! في هذا الزمن، أصبح الحب الحقيقي الذي يجري كجدول الماء الجاري مع الدماء في العروق نادراً. أصبح الحب كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر فيه، الحب في هذه الأيام هو أن يتجاور اثنان لينظرا في نفس الاتجاه، لا أن يتقابلا لينظرا في عيون بعضهما بعض الوقت. ينشغل كل منهما في جهاز هاتفه المحمول، يتحدثان كثيراً في كل شيء وفي اللاشيء، يتناولون هرمون الكلمات والعبارات الجاهزة للقول .. كلمات تصلح للقاء ..وأخرى جاهزة للوداع!
الوقت مازال مبكراً ، يقتحم الضوء جفون الليل، فلول الظلام تتسابق إلى الفرار من وراء الأفق، ضوء النهار لم يستتب له الأمر. الصباح نديّ رطب ، وشجيرات من الزهور والفل والياسمين وقد تلألأت قطرات الندى عليها ،تجعل نسمات النسمات تهبّ عطرة كأنفاس من أحب. السحب متناثرة في السماء، الشوارع والطرقات قد خيّم عليها الصمت ، الديك يطلق صيحته الممدودة بين آن وآخر فيبدد سكون المكان، والشمس تسرح شعرها ويستحم الضوء بوجهها ! جاعت مشاعري ..أمسكت قلمي وجلستُ إلى مائدة الكتابة في حضرة الذكرى ودعوت الحب ليجلس معي، محاولاً التحرش بالماضي وبشجرة الذكريات، ورحت أفكر بقصة حبي كيف سأرسمها على الورق ، طال بي التفكير وسرحت بعيداً عن عالمي. أغمضت عيني على طيفها لعلّي أستعيد عافيتي العاطفية ، وصار شريط الذكريات يمر أمامي. حرصتُ أن أحتفظ بأناقة الكلمات قبل أن تشيخ في ذاكرتي، وأن أُقيم سياجاً متيناً يحول دون تسرب الألفاظ التي تأبى إلا أن تفرض نفسها فرضاً في سياق الحديث عنها. لا أريد أن أختلس نظرة إلى الحروف وأختبئ وراء كلماتي، ولا أريد تبريراً أو اعتذاراً فقد تنطلق بعض الأفكار محررة من كل قيد بهدف الوصول إلى أغوار النفس ونقل المشاعر، وإيقاظ الأحاسيس، وأرجو أن أوفق في ذلك! حدائق الحب تنبت من جديد في قلبي ، من كل الجهات تحدّني الذكريات والماضي، فذكرى الحب أقوى أثراً من الحب .. وسيف الذكريات أشد بطشاً من القتل.. والانسان ليس حقيقياً إلا في اللحظة التي يكون فيها وحيداً مع أفكاره ! أخذتُ ورقة وقلماً، رحتُ أبحث في الحفريات العاطفية التي تراكمت خلال الأزمنة الجيولوجية وشكلت مخزوناً في ذاكرتي، أفرغُ كل ما في صدري ، وأضيفُ إلى سجلّ الرسائل القديمة كلمات جديدة تكون شاهداً على استمرار حبي ، ربّما تقرأها يوماً ما !! أقلّب دفاتر الجوع، ألوك فراغ فمي، أمضغ بلا طعام ،بعض الكلمات أبلعها دون أن أمضغها ، أعيد ما كتبتُ مجدداً ، وأزيل ما علق بها من غبار وأعشاب ، كنتُ أنوي أن أكتب شيئاً عن الحاضر ، لكن عواطفي تتحرش بذاكرتي، وتلوي عنق قلمي نحو الماضي ، وتوقظ داخلي مشاعر وأحاسيس كانت نائمة في سباتها الطويل، فالأدب يتغذى من الذاكرة لا من الحاضر !