خفقة القلب (11)

تستنفر ذاكرتي وتستدعي مشاهد بعيدة من حطام شبابي ، وتفاصيل حياتي المبكرة، وها هو قلمي يشق طريقه مسرعاً ليزفّ عرس الكلمات إلى الصفحات وليكمل المشوار الطويل الذي بدأته :

ما زلتُ أذكر كيف وقعت عيني عليها وحصلتُ على أول ابتسامة منها، وكيف مرّت من القلب إلى القلب! خفق قلبي خفقة الحب الأولى ، وبدأت نطفة الهوى وجنين الحب تتشكل فيه ، فقد استطاعت اختراق حصن قلبي وأسلاكه الشائكة ، وراح قلبي ينبئني بأن علاقة ستقوم بيني وبينها ، لم نستطع كلانا أن نخفي مشاعرنا كلما التقينا في الطريق، كانت عيوننا تتبادل النظرات البريئة وشفاهنا تجود بالبسمات، فتتولد الأشواق بعفوية كولادة النسمة من تلاقي الأغصان ، تلك هي لغة العيون التي تلملم أجزاء الحب المتناثرة ، كل المشاعر والعواطف والنظرات والابتسامات تتشارك جميعاً في طهي هذا الحب الطازج ! كنت أشعر برعشة وبخدر لذيذ يسري في أطرافي كلما تلاقت عيوننا! اللسان لا يستطيع التعبير عمّا يجول في العقل، أما كلام العيون فهو صادق لأنه نابع من القلب ..كل شيء يمكن إخفاؤه إلا ملامح العيون عندما تحب أو تحزن أو تفرح.. الصمت والنظر في بؤبؤ العينين أسمى وأروع وأجمل لغات العالم، سأتكلم الآن بلسان عيني ليطمئن قلبي ولكي لا يضيع مني ما قالته عيناي :

استسلمت لنداء الحب، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت خيوط الحب تجمع بيننا ، وتصاعدت حرارته وأبخرته حتى تمّكن من قلبينا ، اعتادت عيناي على جرعات من عينيها ، هي الوجبة التي أقتات بها لأبقى على قيد الحب، هي الواحة الخصبة في صحراء حياتي ! كانت رؤيتي لها صباح كل يوم وهي في طريقها إلى المدرسة كافية لأن تخرجني من أفكاري وهمومي وتجعلني أمارس هواية جديدة لم أمارسها من قبل وهي هواية الانتظار، فهل يشبع المحبوب من رؤية محبوبته ؟! في كل مرة أراها أجمل من كل مرة ! كلما تقدم بي الانتظار ازداد شوقي لعينيها واشتقت إليها أكثر، شيء أقوى مني يدفعني لانتظارها، شعرتُ بشوق لا يقاوم يحملني إليها ، أحببتها حتى الارتواء، فقدتُ عقلي ، ارادتي فقدت سلطانها على أعضاء جسدي ،أي جنون هذا الذي يجعلني أستيقظ من نومي باكراً حين يفيق الفجر ، وقبل أن ترمي الشمس لحافها، ولم يسبقني غير العصافير الناهضة من أعشاشها..أغادر منزلي..أقبّل خدّ الصباح..تغمرني أشعة شمس تسكب الدفء في الكون مع كل ولادة يوم جديد..أقف في الطريق متكئاً على ظلي ، يتثاءب الزمن، أنتظرها بصبر صياد، ألوك الساعات والدقائق أحسبها سنوات ،مزروعاً كعمود كهرباء أو كشجرة من تلك الشجرات، أسايرُ الشمس من مشرقها حتى تتوسط السماء ،وإلى مغربها حين تستعد للرحيل، أمرّ على الطريق المؤدي إلى مدرستها ،أزرعُ الأرض جيئة وذهاباً، أمشّط ُ الطرقات وأرصفة الشارع بقدميّ الحائرتين ،أتطلّعُ إلى الطريق الذي انتشرت الحجارة على جانبيه ، والذي اعتدتُ أن أراها قادمة منه، ويبقى ظلي واقفاً معي ينتظر الانتظار ! حالة من النشوة..في كل نظرة تُبقي لي شيئاً منها ..شيئاً ليس كأي شيء.. يأبى أن يرحل، أن يتبخر ! كانت السماء تبتسم ، وكان قلبي يقفز حين يرى ابتسامتها تغمر وجهها وقد ألبستها معطفاً للصمت ! أمدّ عنق قلبي لأشاهد وجهها الذي توضأ بالشمس، لأقطف بعض أنفاسها، لأصافح كلماتها ،لألملم أشواقها وبعض خطواتها من الرصيف، لأعض عليها بعيني ، وأرتوي من نهر أنوثتها، لأتزود منها بنظرة أرطب لهيب الحب ، وابتسامة أبلل ريقي، ابتسامتها تشبه ابتسامة الحقول لمجيء الربيع، هي أسهل الطرق لكسب القلوب! كان ينساق بصري إلى الطريق، تلاحقها جيوش من النظرات، تلهث عيناي خلفها في زحام الرصيف، أتتّبع خطواتها، أقرأها بأكثر من عيني، أقرأها بكل جوارحي، بجلدي، بكل خلية من جسدي، وقطرة من دمي، ونسمة في صدري! هكذا يصبح للمكان نبض ودفء ورائحة فأشعر أن دورتي الدموية مشتركة مع جسد المكان حيث تكون فيه ، كان الطريق من بيتها إلى مدرستها مزروعاً بالخطوات والنظرات والابتسامات والأشواق! كانت تخصني بنظرات حارة تكاد تفضح عاطفتها ، ففي كل نظرة ابتسامة حلوة، أن تبتسم لي وأبتسم لها ذلك هو السحر ! كانت تتلفت إليّ بقلبها فيشدني ويدعوني إليها، فتبتسم ابتسامة أشعتها كأشعة الفجر، ابتسامة مغرية تحرّك القلب وتبلل وجهي بالفرح ! أعترف أنها كانت كريمة في مشاعرها نحوي، وكانت هي الأجرأ! يا إلهي لماذا تكون الأنثى دائماً هي الأجرأ ؟! فأول الحب عند الفتى الحياء وأول الحب عند الفتاة الجرأة! لقد وجدتْ في حبها لي نفحة تلطّف جفاف أجوائها المدرسية ، وترطب جفاف حياتها ، أقول لحواء : أيتها الفتاة شاوري قلبك ،ولا تصري على إغلاق بابه أمام أية عاطفة مخلصة تتلمس طريقها إليك ! بينما أنا أنظر بلهفة إليها اعترض والدها مدى بصري وراح ينظر إليّ بدهشة ،فضاق صدري ولملمتُ أطراف ابتسامتي، وانقطع تيار البصر مثلما ينقطع التيار الكهربائي فجأة!

كنت أعدّ نفسي لكلام كثير ، لكنني لم أكن قادراً على الكلام، فلم أقل شيئاً ، أغص بالحروف ،كل الكلمات معلّقة في حلقي تأبى الخروج ، تحركت شفتاي في ذعر من الصمت لتقول شيئاً، أي شيء، هل أقول لها ما يقوله الناس ؟ لا، أنا لا أشبه الناس ، أنا الآن أختلف عن كل البشر ، لا أجيد ترجمة لغة العيون وحركة الشفاه لأنني لم أدخل مدرسة الحب بعد..لا شيء يُقال حين لا ينفع الكلام ..هنا أدركت أن الكلمات يمكن أن تضمر ، إذا قيلت فقدت حرارتها.. أدركت أن اللسان لا فائدة له وأنني لست بحاجة إليه في فمي !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى