كتب

خليل صويلح… تاريخ سوريا في رواية

يزدحم رأس الروائي والصحافي السوري خليل صويلح بكلّ من بيئته الأولى على ضفاف الخابور، حيث القُرى النائية والفقيرة وسوالف الجدّات؛ ودمشق التي شكّلت بيئته الثانية، منذ هجرته إليها لبدء العمل الصحافي، التي شكّلت لاحقاً فضاء السرد لغالبية رواياته، بشوارعها ومقاهيها وأحيائها وحكاياتها؛ تماماً كما يزدحم بالكتب ونقاشات المُثقّفين وأمزجتهم المختلفة غير المفهومة. لذا يختار روايته «ماء العروس» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/ بيروت)، ليُفرّغ بين دَفّتيها جميع هذه الأفكار وغيرها.

 

تمتاز الرواية بلغة سرديّة تكاد تخلو من المجاز، باستثناء مواضع قليلة، كمشهد امرأة جعلها تكلّم أصيصات الورد مُخترعةً أسماء لها، تارةً بحنان، وطوراً بعتاب، وأحياناً بالتهديد والوعيد.

أو عندما يصف جدّة إسماعيل وسوالفها، مُستعيراً مفردة «سوالف» في غالب مواضع الرواية من بيئة الخابور: «… الجدّة التي كانت تنسج خيوط الحكاية بقرن غزال، ما يجعل الكلب يتكلّم، والنعامة تبيض ذهباً، والعاشقة تنجو من محنة أكيدة»، إضافة إلى وصفه دعاءها الدائم واختصاره في عبارة شعريّة: «دربك أخضر».

تنتهي لغة المجاز عند هاتين السيّدتين، وكأنّ صويلح يؤكّد مجدّداً على تمسّكه بخياره في تغيير نمط كتابته من الشعر إلى الرواية، وهو الذي بدأ مسيرته كشاعر؛ لتسود لغة السخرية والنقد للمجتمع بعاداته وتخلّفه، ولنظام «البعث» باستبداده وتعسّفه، ولجلسات المثقّفين، ولنوع من الروائيّين يصفهم بالمُتحذلقين: «بقصد أن أتناول كأساً من الشاي في حديقة المتحف (أو شاياً بنكهة الزنجبيل والقرفة والتاريخ… كما قد يصفه روائي مُتحذلق)» (ص 36)، أو «اتّجهت إلى المطبخ لإعداد كوب من إكليل الجبل لتحسين المزاج (الروائيّون يفضّلون تسميته: «روز ماري»)» (ص96).

ولا تفوته السخرية من صنف الشعراء، الذين يقتاتون على فُتات الموائد الثقافيّة، ويتشاجرون بقصد إثبات الذات، ويستعيضون عن أسمائهم الحقيقية بأسماء لمعت في عالم الأدب: «في اللحظة التي نشب فيها شجار من جهة طاولة المنفيّين العراقيّين، لمح بينهم هاملت، وأوفيليا مجهولة، وبعثيّاً مُنشقّاً باسم مستعار، وشاعر عاميّة. تبيّن أنّ سبب الشجار مطلع قصيدة لمظفّر النوّاب أهداه شاعر العاميّة إلى أوفيليا كنوع من الغزل الفجّ: عيونك (زرازير البراري)، وقبل أن يكمل البيت، عاجله هاملت بلكمة على وجهه…».

نتنقّل خلال الرواية بين ثلاثة أزمنة: زمن البطل الأساسي مجهول الاسم (2023ــ 2024)، وهو روائيٌّ يسكن دمشق، يُظهره صويلح في المشهد الأوّل يبحث عن صورة شخصيّة، في نيّة منه لاصطحابها إلى مختبر التصوير، ليحصل على نسخ جديدة منها، بما يُمكّنه من تقديمها مع الأوراق المطلوبة لتجديد جواز السفر، فيتعثّر بفلاش ميموري، تمثّل مستودعاً لأنقاض كتاباته، إذ تحتوي على مسوّدات غير مفهومة، سيخترع منها شخصيّات، ويعمل على تحويلها إلى رواية.

وهناك زمن البطل الأوّل لرواية الراوي، واسمه «ساري البشير»، الذي يتجوّل في ذهن الراوي بينما يجوب شوارع دمشق. ففي حين يُثبّت البشير أوتاد خيمته فوق تلّة تطلّ على حقول القطن على مقربة من الضفة الشرقيّة للخابور، تدق هذه الأوتاد في رأس الراوي بانتظام، ممتزجةً مع أبواق الحافلات والباعة الجوّالين.

وساري البشير بدويٌّ، يُعتَقل بسبب حيازته بارودة، ليلة حدوث الانقلاب السياسي وبدء ثورة «البعث»، فيُهان أمام والدته وزوجته وأطفاله، ثُمّ يتكفّل عبود السطّام بإخراجه من السجن مقابل ثلاثة خراف، توافق الأم على دفعها كفدية لإخراجه، فيخرج بعد أن يبصم على ورقة يُعلن فيها انتسابه إلى حزب «البعث».

ثُمّ يتداخل زمن الراوي، مع زمن البشير، ويتيه الراوي في احتمالات الكتابة حول مصير البشير بعد خروجه من السجن، فمرّةً يحاور نفسه مُستفهماً لمَ لا يجعله يتطوّع في سلاح الهجّانة، مُعلّلاً ذلك بأنّ ارتداء ثياب الميري سيُخفي نُدَبَ الجلد، وسيمنحه مهابةً تعوّضه عن شعور الذل بعد اعتقاله.

ومرّةً يُقرّر أن يجعله طبيباً للأعشاب، فهي مهنةٌ تتناسب مع نحوله، وعظام وجهه البارزة، وعينيه الحادّتين، ونبرة صوته الخفيضة، وكونه دائماً ما راقب أثناء خلواته في البريّة، أنواع النباتات، فتذوّق طعمها، وشمّ رائحتها، وجرّب ملمسها، مستهدياً إلى النافع منها عن طريق ما تلتهمه الغزلان… وغيرها من الاحتمالات.

كأنّ صويلح بذلك، يأخذنا إلى مختبر كتابة الرواية عموماً، ليصوّر لنا ما يكمن خلف كواليس كتابتها من احتمالات ومسوّدات وأمزجة، قبل اكتمالها وخروجها بحلّتها النهائيّة، التي ستصل إلى يد القارئ.

أمّا الزمن الثالث، فهو زمن «إسماعيل ساري البشير»، الذي يُهاجر من ضفاف الخابور إلى دمشق لينخرط في العمل الصحافي، والجو الثقافي الذي يسودها. يمرّر صويلح عبر شخصيّة إسماعيل المزيد من الرسائل السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ويروي لنا مزيداً عن تاريخ دمشق وأحيائها، حيث سيحتلّ كلّ من حي «ساروجة» القديم، ومقهى «الروضة» الأشهر في حياة مُثقّفي العاصمة، جزءاً مُهمّاً من السرد. يتخذ إسماعيل من الكتب عكّازاً، ومن لذة القراءة نديماً، ليُفسح صويلح بذلك المجال لنفسه بتقديم قائمة طويلة عن أهم الكتب الواجب عليك قراءتها، كشخص مُصاب بلوثة القراءة. يستعرض هذه القائمة بذكاء روائي ومثقّف له باع طويل في القراءة، عبر زجّها بين صفحات الرواية بما ينسجم مع السياق الروائي والسرد التاريخي لمعالم دمشق وأحيائها.

بين مفردات البيئة الصحراويّة، وماء الخابور الذي شرب منه صويلح فوجد فيه وصفاً أورده في الرواية: «الماء النقي، الزلال، الشفّاف»، ما جعله يستحقُّ اسم «ماء العروس»، فهو يُطهّر من الهموم والآثام ونفاق السياسة ومكائد البشر؛ وبين الألف كيلومتر التي قطعها إسماعيل ليصل إلى دمشق، كما قطعها صويلح بنفسه ذات يوم، يبني صويلح روايته «ماء العروس»، دامجاً فيها التاريخ السياسي والاجتماعي منذ حقبة ما بعد الاحتلال الفرنسي حتّى تاريخ كتابتها، بلغة مباشرة وكثيفة وغزيرة بعناوين الكتب والسوالف والخرافات وتاريخ دمشق بأحيائها وما شهدته من انقلابات، لتكون الرواية بالمجمل وجبة دسمة لأيّ قارئ يمتلك نفَساً طويلاً للقراءة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى