فن و ثقافة

خمسون سنة على استقلالها: الجزائر تتذكر المحارب الذي احتضنه ترابها«روح فرانتز فانون» تشرف على عالمنا المعاصر. (اسكندر حبش)

اسكندر حبش

تذكرت الجزائر، في ذكرى استقلالها الخمسين، واحداً من الذين ساهموا في إعلاء صوتها الآخر، عبر الكتابات العديدة التي شهد عبرها على مرحلة تاريخية ومصيرية من عمر تلك الثورة. هل فعلا تذكرت الجزائر فرانتز فانون، وهو الحاضر أبداً في الكثير من تفاصيل هذا البلد؟

لم يكن المؤتمر الدولي حول فانون ـ الذي حمل عنوان “روح فرانتز فانون” ـ والذي دار بين الأول والعاشر من شهر تموز الحالي (بتنظيم منشورات “أبيك” و”الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي”) عبارة عن استرجاع حنيني لسيرة مثقف ارتبط اسمه عميقاً بتلك الثورة، بقدر ما كان محاولة جادة لإعادة استنطاق كتاباته المتعددة والمختلفة، وتبيان مدى راهنيتها وارتباطها بحركة الفكر المعاصر وبخاصة في مدى أشكال الحركات الكولونيالية الجديدة، التي تستعمر الشعوب بطرق مختلفة عمّا عرفناه سابقاً من “أشكال تقليدية”.

ففانون، وعبر كتاباته المنشورة – (كشف المؤتمر عن وجود العديد من المخطوطات والأوراق والرسائل الخاصة التي يتمّ العمل عليها لتشهد النور قريباً) – كما عبر شخصيته وعمله (كطبيب نفسي في بليدا)، أثّر عميقاً بآلاف الأشخاص في العالم وبخاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. إذ جاءت كتاباته في تلك الفترة لتساعد كثيرين في إعادة التفكير بشرطهم الإنساني، كما بسياقاتهم الاجتماعية وليواجهوا عبرها المشكلات المتعددة التي كانوا يواجهونها بصفتهم أفراداً وجماعات تعرضوا لمختلف أنواع الهيمنة. من هنا، اضطلع كثيرون بفكر فانون وإن كان ذلك وفق الطريقة التي فهموا فيها هذا الفكر وهذه الكتابات التي حاولوا الانطلاق منها وفق وعيهم للشروط المحيطة بهم.

ثمة مروحة واسعة من الشرائح ـ مناضلين من أجل الاستقلال الوطني، المطالبين بالتحرر من أغلال الطبقية، ناشطين في سبيل تحرر الفرد، مفكرين، علماء، كتّاب، علماء نفس، مختصين بالأمراض العقلية، فنانين، الخ.. ـ هؤلاء وجدوا في كتابات فانون وفكره الكثير من المرجعيات الصالحة لإعادة التفكير بكلّ شيء.

إذاً، وفي ظل هذا التأثير الواسع الذي أحدثته تلك الكتابات بتناولها العديد من “القضايا المصيرية” كما ارتباطها ببعض “القضايا الفرعية” مثل “الخصوصية الذاتية”، “المجموعة الوطنية وخصوصيتها الثقافية”، “التسلط الاستعماري”، “الهيمنة الفكرية للنموذج الغربي” جاءت “لقاءات روح فانون” لتساهم في إعادة التفكير في راهنية فانون، عبر سلسلة من المحاضرات التي شهدها ابنه وابنته، والتي تكلم فيها عدد كبير من الباحثين والمفكرين والكتّاب من بعض البلدان العربية والأفريقية والآسيوية وهم إعجاز أحمد وغيتا هاريهاران وكريشنا مورتي وبرابير بوركاياستا (الهند)، طارق علي (باكستان، تغيب عن الحضور وقد تليت ورقته نيابة عنه) إحسان شريعتي (إيران)، سمير أمين وحلمي شعراوي ومحمد علي حافظ (مصر)، فوزي كريم (العراق)، خيري منصور (فلسطين)، محمد بوحميدي وإدريس تيرانتي وهاجرة قويدري (الجزائر) أليس شركي (فرنسا) جورج قرم (تغيب عن الحضور وألقيت كلمته نيابة عنه) واسكندر حبش (لبنان)، أوجين إيبودي وبرنار فونو (الكاميرون)، تييرنو مونينيمبو (غينيا)، جان لوك راهامانانا (مدغشقر)، سامي تشاك (توغو).

رؤية الآخر

منذ بداية المؤتمر، بدت النبرة واضحة في إعادة التفكير بهذه الرؤية الفانونية للآخر، كما التفكير بهذه الأشكال الجديدة التي تتبعها الكولونيالية “الحديثة”، إذ جاءت من ابنته “ميراي فانون منديس فرانس” التي أشارت إلى “متطلبات فكر فانون” معتبرة أن التخلص من الاستعمار بالنسبة إلى فانون كانت بمثابة “برنامج من الفوضى المطلقة يهدف إلى مساءلة الكولونيالية بشكل كامل”، من هنا، شددت في كلامها على “النقد المحرر” كما على المفهوم الإنساني والكوني، في الوقت عينه، مثلما تجلى عند فانون مذكرة، لأجل ذلك، بكلماته التي وجهها للأفارقة: “خطأنا نحن الأفارقة، أننا نسينا بأن العدو لا يتراجع أبداً.. قد يستسلم لكنه لا يتحول أبدا”.

“عدم التحول” هذا، لا بدّ أن يقودنا بالطبع إلى التفكير بهذه الأشكال الجديدة التي تحاول أن “تستعمر العالم مجددا” بمعنى آخر “ثمة مجتمع جديد يبقى علينا أن نبنيه”، لذلك ربما نحتاج إلى التفكير بما كان قاله فانون وبخاصة حول الدور الذي تلعبه البورجوازيات الوطنية في البلدان المستقلة حديثا كما في انزياحات النخب الوطنية.

مفهوم النخب الوطنية، عالجه بدوره المفكر الهندي إعجاز أحمد، الذي تطرق إلى كيفية الاستقبال الصعب الذي عرفه فانون في السياق الفكري الهندي الحديث إذ أنه ـ هذا السياق ـ يميل أكثر إلى مفهوم اللاعنف. وبالرغم من هذه الصعوبة إلا أن دقة بعض التحليلات الفانونية وجدت موضعها وبخاصة تلك المتعلقة بانهيار الدول/ الأمم، غداة الاستقلال إن لم تلعب النخب الوطنية دورها الحقيقي. كلام إعجاز أحمد، لا بدّ أن يقودنا إلى ملاحظته الدقيقة وهي أن هذا الانهيار، يجد امتداده اليوم في بعض الدول التي فقدت سيادتها، حتى في أوروبا، التي تواجه تحكم “وكالات الترقيم” أي المؤسسات المكلفة بتثمين اقتصاد بعض البلدان وفق قواعد دقيقة.

كلام فانون هذا حول البورجوازيات الوطنية والنخب الوطنية، لا بدّ أن يجعلنا فعلا نعيد التفكير بكتاباته، أي هل ما زالت تستطيع أن تساعدنا على فهم العالم المعاصر الذي تبدل كثيراً منذ نصف قرن، كما على فهم الرهانات التي تواجه “بلدان الجنوب” وبقية الإنسانية؟ قد نجد جواباً عن ذلك في الورقة التي قدمها جورج قرم إذ وجد أن التواصل والتخاطب قد يظهران كم أن قراءة فانون يمكن لها أن تبقى خصبة ومؤثرة في فك رموز معنى تطور المجتمعات العربية وانتفاضاتها (الحالية) كما فهم رزوح مسؤوليها لأوامر الولايات المتحدة وأوروبا وانصياعها لبيروقراطية المنظمات الدولية والمتعددة الجنسيات. ووفق قرم أيضا، انه على الرغم من مرور خمسين سنة، إلا أن تحليلات فانون تبقى على راهنية مثالية، طالما أن النخب والنخب المضادة في العالم العربي تبقى مدهوشة للأبد كما هي خاضعة لرغبة السلطات الغربية التي احتلت العراق والتي أوجدت لها قواعد عسكرية بشكل مكثف في شبه الجزيرة العربية، بينما بقي الفلسطينيون “مستعمرين” بالمعنى الذي تحدث عنه فانون ووصفه في كتاباته أي في هذه الصورة الشبيهة بالأوروبيين المستعمرين.

انطلاقاً من ذلك كله، تحوي التحليلات التي قام بها فانون حول مأزق الهوية عند المستَعمَرين درجة كبيرة من الفائدة والراهنية وبخاصة لفهم لغز تكاثر وتعددية حركات الإسلام السياسي، وفق قرم.

اللحظة الراديكالية

صحيح أن التحليلات الأساسية التي قام بها فانون انطلقت في جزء كبير منها من تحليلاته للثورة الجزائرية، إلا أنها عرفت عبر مسارها وسياقها التاريخيين كيف تتحدث عن شعوب أخرى انطلاقاً من هذه اللحظة الجزائرية الراديكالية في نضالها ضد الكولونيالية. من هنا، جاءت كلمة سمير أمين، الذي أشار إلى أن استعمار الشعوب قد أنتج اقتلاع الشعب الجزائري حين أعطى لحركة التحرر الوطني “سمة عامية” (وفق مفهوم روما القديمة). كذلك رأى أمين أن هذه الخاصية للوضع الجزائري كانت في أساس “الحماسة لفرانتز فانون من قبل كلّ المناضلين الوطنيين كما من قبل مناضلي أفريقيا وآسيا”. بمعنى آخر، كان سمير أمين يشير أيضاً إلى أن فانون تحول إلى وجه “محترم” و”محبوب” عند الأفارقة والآسيويين، أيّ “كان فردا ذا اتساع وذا صفات كبيرة نظرا إلى دقة الأحكام والتحليلات التي أعطاها، كما لشجاعته في قول الحقيقة”.

مفهوم الحقيقة تقاطع أيضاً مع المحللة النفسية أليس شركي، التي عرفت فانون عن كثب، إذ مارست فترة تدريباتها في الجزائر بإشراف فانون نفسه، كما كانت أكثر من صديقة مقربة خلال فترة حياته الأخيرة، وعرفت الكثير من أسراره وبخاصة أنه كان يملي عليها كتاباته الأخيرة، بعد أن أنهكه المرض الذي قضى عليه وهو بعد في السادسة والثلاثين من عمره. في استعادتها لحقيقة ما جرى من فظائع كانت تكتشفها عند المرضى الذي تعرضوا للتعذيبات الوحشية، عرضت شركي صورة شخصية آسرة عن “أستاذها” و”حبيبها” من دون أن تنسى عملها اللاحق، الذي حاولت أن تطور فيه التحليل النفسي الذي مارسته انطلاقاً من عمل فانون وبخاصة أهمية النظرة “العنصرية” التي يحملها شخص ما تجاه آخر “مشتبه به”، كما في تحليله للعلاقة بين المهيمن والمهيمَن عليه.

إذا، حاول المؤتمر أن يعيد طرح العديد من الأسئلة انطلاقاً من فانون، لإعادة التفكير بالعالم المعاصر ومشكلاته الراهنة، فالتساؤل حول أهداف النضال مثلما تحددت في الماضي، انطلاقاً من الثورة الجزائرية، لم تنس منظمي المؤتمر أن يفردوا مساحة واسعة لنقاش نجاح هذه المحاولات كما فشلها، أي رغبوا أيضا في فتح أبعاد حول التحرر كما حول الانعتاق الإنساني. مشكلات جاءت لتُطرح في العيد الخمسين لانتصار الثورة الجزائرية، أي بمعنى آخر، لم تُنسِ طرح مشكلة الإنسان وفق فانون، وهو محور شهد العديد من النقاش، وبخاصة أنه كان في قلب اهتمامات فانون.

من هذه الاهتمامات الإنسانية رأت الكاتبة الجزائرية هاجر قويدري أن فانون توجه بخطابه إلى الإنسان الكوني، بينما يحاول الجميع وضعه داخل حلقة واحدة وهي الحلقة السياسية ما يجعلنا نبتعد عن أدبه لذلك “علينا أن نجد استقلالاً أدبياً”. وجهة النظر هذه شاركها فيها الكاتب التوغولي سامي تشاك الذي اعتبر أن مسألة الإنسان عند فانون تمتد إلى ابعد من فكرة تحرير المستعمِر والسياسة، لأن فانون كان يحمل فكرة أكثر اتساعاً وكونية”.

لا بدّ أن يقودنا هذا الكلام إلى فكرة أبعد، فيما لو استعدنا كلام فانون ذاته حين يقول في كتاب “معذبو الأرض”: “لم يعد يكفي أن نلتحق بالشعب، في ماضيه الذي لم يعد موجوداً فيه”. فكرة تنفتح على أفكار أخرى، وجدناها عند الكاتب تييرنو مونينمبو الذي تطرق إلى مفهوم الذاكرة المتعددة، حيث أن الماضي مجددا هو المادة الأساسية لكل الآداب المعاصرة. بهذا المعنى على الكاتب أن لا يلتحق بالماضي بل عليه أن يعيد العمل على هذه الفكرة الأخيرة وأن يعيد كتابة التاريخ بطريقته الخاصة من دون أن يشوهه ويغيره. لأن التشويه هو ما نشهده اليوم في السياسة الأفريقية المعاصرة، ما يتيح للمستعمر إنكار أعماله الإجرامية وأن يتحدث عن “استعمار إيجابي”. عدم التشويه أيضاً، نجد صداه عند أوجين إيبودي الذي تساءل حول الطريقة الممكنة للمضي من حالة المستعمَر إلى حالة الإنسان الحرّ، أي ما كان يشير إليه هو المضي من كونهم “معذبي الأرض” إلى وضعية الإنسان الحرّ.

بهذا المعنى، أي بعدم الالتحاق بماضي الشعب، نفهم النقد الذي وجهه فانون إلى علي شريعتي حين تحدث عن مفهوم العودة إلى الجذور. نص اكتشفناه عبر إحسان شريعتي (ابن المفكر الإيراني الراحل) حين كشف عن مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الشخصين. وانطلاقاً من قراءة بعض هذه الرسائل، ينطلق شريعتي في قراءة حركة الاحتجاجات التي تعرفها بعض الدول الأوروبية والتي عرفت بحركات المناهضة للعولمة، مثلما يقرأ “الربيع العربي” (مع اعتراضه على التسمية) والحركات الاصلاحية في إيران متخطياً الثنائيات الثقافية: المشرق/ المغرب، السنة/ الشيعة/.. معتمداً على فانون نفسه حين اعتبر الجزائر، غداة الاستقلال، أنها ستكون فكرة كونية ذات دفق جديد للإنسانية؟

كلام شريعتي، لا بدّ أن يجعلنا نتواجه فعلاً مع حقيقة علينا التفكير بها، ولم يلحظها المؤتمر فعلا، وهي إعادة قراءة المجتمع الجزائري، بعد خمسين سنة من الاستقلال، أي هل تشكل مما كان يطمح إليه فانون، حين اعتبر أن هناك “جلداً جديداً” سيتكون؟

في أي حال، ثمة الكثير من القراءات والمحاضرات التي تجعلنا نقع على راهنية جوانب كثيرة من فكر فانون وبخاصة اذا قارناها بأشكال الاستعمار الجديدة التي تنتشر اليوم، في مختلف بقاع العالم، التي يجنح كثيرون إلى تسميتها بالرأسمالية المعولمة. لا بدّ أيضاً أن تقودنا حركات الاحتجاج التي نعرفها اليوم في العالم العربي إلى طرح سؤال، وانطلاقاً من فانون نفسه: ألم تقم النخب التي حكمت غالبية البلدان العربية بإعادة إنتاج الرسم عينه الذي ابدعته حركات الاستعمار، لتتبوأ السلطة كولونيالات جديدة هيمنت على كل شيء، مبعدة كل أشكال الحرية والديموقراطية متجهة إلى امتلاك الثروات وحتى الشعب؟
بعيداً عن الخطابات الإعلامية، جاءت غالبية الأوراق المقدمة، لتخط مساراً جديداً في حياة فانون وفكره، يقع على تماس فعلي مع اللحظة الراهنة، التي نشهدها بمختلف تجلياتها بكونها “قنابل موقوتة” زرعها الغرب ليسيطر على عمليات الإشراف على السياسة، عبر “البورجوازيات الوطنية” التي حذر منها فانون في العديد من كتبه، بالأحرى التي لم يتوقف عن التنديد بها. ومن هذا التنديد، ينطلق الكاميروني برنار فونو الذي اعتبر أن أفريقيا أصبحت اليوم، بأسرها، قارة الكولونيالية الجديدة بامتياز مع كل ما يعنيه ذلك من هشاشة الدول التي تبنى حديثاً.

على مدى عشرة أيام، قيل الكثير حول فانون. أوراق قدمت، حول روح ذاك المارتينيكي الذي رفض شرطه التاريخي، لتضعه المصادفة في بلاد أخرى، تبناها، ووجد في ثورتها منطلقاً لأحلامه ولفكره، على الرغم من أن القدر لم يمهله كثيراً إذ فتك به المرض من دون أن يجد الوقت الكافي لينطلق في تحليلاته إلى زوايا أبعد. زوايا، وعلى الرغم من مرور خمسين سنة على رحيل صاحبها إلا أنها تشير إلى أن صاحب “معذبو الأرض” كان رائياً في بعض تحليلاته، ولربما كانت فرصة لإعادة قراءته وفق المفاهيم المعاصرة (ما قام به إدوارد سعيد في دراساته الما ـ بعد كولونيالية، كما إقبال أحمد بالطبع) ووفق التطورات الراهنة التي يعرفها العالم المعاصر. كل ذلك لأن ثمة روحاً كانت ترفض هذا الشرط المفروض على الإنسان. ربما لأن كل فلسفة لا تضع الإنسان في قلب اهتماماتها هي فلسفة “فاشلة”. من هنا لا تزال هناك الكثير من الأهمية الحاضرة لفرانتز فانون.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى