خمسون عاماً على هزيمة حزيران
في 16 حزيران 1963، استقال ديفيد بن غوريون من منصب رئيس الوزراء في إسرائيل، بعد ضغوط شعبية وفي داخل حزب «الماباي» الحاكم، وصلت إلى حدود رميه بالبيض ومقابلته عندما يظهر في اجتماعات رسمية حزبية بصفير الاستهزاء والاستنكار.
كان السبب تفجّر «فضيحة لافون» لما بُرِّئ وزير الدفاع بنحاس لافون عام 1960 من قضية الخلية اليهودية المصرية التي قامت عام 1954 بتفجيرات في القاهرة والإسكندرية، واكتشف أن جهات في الجيش والاستخبارات قد وضعت تزويراً لتوقيعه على الأمر بتحرك الخلية. في يوم الجمعة 9 حزيران 1967، قدّم الرئيس المصري جمال عبد الناصر استقالته بعد قليل من الهزيمة العسكرية أمام الإسرائيليين. بعد دقائق من تلك الاستقالة نزل الملايين إلى الشوارع المصرية والعربية، مطالبة بالرجوع عن الاستقالة عبر حناجر رافقها الكثير من التفجع والدموع. تراجع عبد الناصر عن استقالته تحت ضغط الشارع.
يعكس المشهدان، الإسرائيلي والمصري، صورة عن البلدين بطابقيه: في مؤسسات السلطة والمجتمع. يمكن القول، من دون أي مغامرة فكرية، بأنّ هذه الصورة هي التي تفسّر انتصار الإسرائيليين وهزيمة العرب. يعلق وينستون تشرشل في صيف 1945 على هزيمته في الانتخابات، بعد أن قاد البريطانيين للنصر على الألمان، بالكلمات الآتية: «الشعوب القوية دائماً ما تتصف بالجحود تجاه زعمائها». حصل الشيء نفسه لكليمنصو في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. كانت إنجازات بن غوريون وما حققه للإسرائيليين، وهو المؤسس الفعلي للدولة العبرية، تفوق ما حققه عبد الناصر للمصريين والعرب. رغم ذلك، أجبره الإسرائيليون على الاستقالة، وأن يذهب جريحاً منبوذاً إلى مستوطنة «سيدي بوكر» في صحراء النقب، حيث مات بعد عشر سنوات وهو يلعق ذلّ المهانة والجحود. لم يشعر الإسرائيليون تجاهه بشعور الأبناء عندما يغادر الأب البيت ويتركه لهم، بل طردوه من البيت. كان منظر المصريين والعرب في يومي 9 و10يونيو 1967، شبيهاً بالأطفال الصغار عندما يغادر الأب عتبة البيت ويجتازها مع التهديد بالمغادرة وعدم الرجعة.
لم تكن مراجعة العرب للهزيمة الحزيرانية بمستوى الحدث: معظم المراجعات بُنيت على أن سبب الهزيمة مرتبط بالمسائل العسكرية، ولم تبنَ الرؤية على أن الهزيمة هي هزيمة لبنية كاملة: سياسية – عسكرية – اقتصادية – اجتماعية – ثقافية. من هنا جرى تقليص «الهزيمة» إلى «النكسة». في عامي 1867 – 1868 مع بداية فترة حكم الإمبراطور الياباني (الميجي) جرت بداية عملية نهضة كبرى نتيجة الصدمة اليابانية بتفوق الغرب عبر مقارنته بالتأخر الياباني. شملت النفضة للبناء المحلي كل المجالات في المجتمع والسلطة وفي التعليم والتكنولوجيا مع استيراد كثيف من الغرب في المجالات الأربعة المذكورة من دون تقليد أعمى، ومن دون طمس الثقافة المحلية أو قتلها. هزم اليابانيون الصينيين عام 1895 والروس عام 1904، وكانوا قوة كبرى في الحربين العالميتين. كانوا عام 1867 أكثر تأخراً من مصر آنذاك، التي كان يحكمها الخديوي إسماعيل. لم تكن الترجمة العسكرية اليابانية ترجمةً لجانب التكنولوجيا فقط، بل ترجمة لبنية كلية: سياسية – عسكرية – اقتصادية – اجتماعية – ثقافية. بدأت مفاعيل الترجمة بعد نحو ثلث قرن من الزمن. لم تتغيّر السلطة المصرية في فترة ما بعد الهزيمة كثيراً، بل حصلت تغييرات جزئية في أساليب السلطة وطرق تعاملها مع المجتمع في مرحلة ما بعد «بيان 30 مارس 1968». بعد وفاة عبد الناصر في 28 أيلول 1970، اتجهت البنية الأساسية لنظامه، في فترة ما بعد 15 مايو 1971 وإزاحة «اليسار الناصري»، نحو الانفتاح على واشنطن ما بعد حرب أكتوبر 1973 و«الانفتاح الاقتصادي» عام 1974 ثم عام 1978 نحو الصلح المنفرد مع إسرائيل والاستقالة من شؤون آسيا العربية. لم تعد العروبة قوية في مصر ما بعد 28 أيلول 1970، ويبدو أنّ عبد الناصر كان استثناءً مصرياً بهذا المجال. خارج السلطات كانت المراجعات للهزيمة سطحية على الصعيد الفكري، مثل مراجعة صادق جلال العظم: «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، فيما كانت مراجعات ياسين الحافظ والياس مرقص وعبدالله العروي أكثر عمقاً، ويمكن لهذا السبب بالذات أنها لم تلاقِ الصدى، وأيضاً لهذا السبب تبقى طازجة بعد نصف قرن من الزمن.
على صعيد التيارات السياسية حصلت انزياحات أكثر منها مراجعات: انزاح شيوعيين نحو الانفتاح على العروبة، كما في لبنان 1968 وسوريا 1969-1972. حصلت هجرات بين عامي 1968 و1970 من اتجاهات عروبية، في «حركة القوميين العرب»، و«البعث» و«حركة الاشتراكيين العرب»، نحو الماركسية، في سوريا وفلسطين ولبنان واليمن، ولكنها كانت كثيرة الإصابة بـ«مرض اليسارية الطفولي» الذي شخّصه لينين، والذي هو مرض مثل الإيدز غير قابل للشفاء. كان التحول الأقوى هو باتجاه ملء فراغ انحسار التيار العروبي، عند الناصريين والبعث، من خلال نمو «الإسلام السياسي الإخواني»، وفي حالتي العراق والسودان من خلال ملء فراغ انحسار الشيوعيين بالبلدين عبر نمو حركة «الإسلام السياسي الشيعي» و«حركة الاتجاه الإسلامي السودانية» بزعامة حسن الترابي، فيما في الجزائر وتونس كان انحسار «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» و«البورقيبية» قد مُلئ عبر «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» و«حركة النهضة». في القرن الحادي والعشرين نافست «السلفية الجهادية» على زعامة «الإسلام السياسي»، واستطاعت إزاحة «الإخوان المسلمون» عن الواجهة في سوريا (2013 – 2017)، وفي ليبيا ما بعد القذافي ويتجه الكثير من «الإخوان المسلمون» نحو «السلفية الجهادية» في مصر ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013 من قبل السيسي على مرسي وحكم جماعة «الإخوان»، تماماً مثلما حصل في جزائر ما بعد انقلاب11 يناير 1992 الذي جاء لقطع الطريق على فوز الإسلاميين بالانتخابات البرلمانية لما سادت «الجماعة الإسلامية المسلحة» على حساب «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي فازت بالجولة الأولى من الانتخابات. هناك علامات كثيرة على بدء انحسار «الإسلام السياسي» في مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013، مثلما بدأ انحسار «التيار العروبي» في مرحلة ما بعد 10 حزيران 1967 وانتهاء حرب الأيام الستة.
من خلال المراجعات، في السلطة والمجتمع، يمكن فتح طريق جديد يتجاوز «الهزيمة»: لم يحصل هذا عند العرب في مرحلة ما بعد الهزيمة الحزيرانية. لذلك حصلت تراجعات السلطات أمام الغرب وإسرائيل في «اتفاقيات فك الاشتباك المصرية والسورية» عام 1974 ثم في «اتفاقيات كامب ديفيد» عام 1978، ثم حرب اجتياح 1982 الإسرائيلية للبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية نحو شتات جديد وسط صمت عربي رسمي، وصولاً إلى «مؤتمر مدريد» (1991) و«اتفاقية أوسلو» (1993). كانت حرب 1991 وغطاء الجيوش العربية لها ضد العراق علامة على خضوع النظام العربي الرسمي لواشنطن، وهو ما تكّرس بقوة في الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
كان تكرّس الهزيمة أمام إسرائيل، التي قادت لخضوع النظام الرسمي العربي لواشنطن، مترافقاً وعلى الأرجح مؤدياً إلى انفجار البنى المجتمعية العربية منذ عام 2011 تحت ما سمّي «الربيع العربي» الذي هو على الأرجح خريف أو على الأقل شتاء. كان هذا الانفجار انفجاراً للبنية بفعل التعفن وقوة الضغط وليس انفجاراً لقوة مجتمعية ضد السلطات القائمة ليشكل بديلاً لها مثلما جرى في روسيا 1917: انفجاراً بنيوياً ذاتياً عفوياً وليس بقوة عامل ثوري وليس بقوة محرك خارجي. عملياً، المجتمعات العربية الثلاثة الكبرى: المصرية والسورية والعراقية، التي كان يخشى منها بن غوريون في الخمسينيات، قد تدمرت.
صحيفة الأخبار اللبنانية