خمسون عاما من العمل الثقافي (2)- (فؤاد قنديل)
فؤاد قنديل
أخذ يضرب ظهر الكنبة التي أجلس عليها ويقول: الكلاب لا يحسون. البلد محتلة وهم يأكلون من باريس، ولا ندري ماذا يفعلون أيضا.. الكلاب .. الكلاب.
التقيت عبدالناصر صيف عام 1968 بالمصادفة البحتة في بيت حسين الشافعي الذي كان صديقا لرئيسي في العمل واسمه أحمد المصري، وقد اعتاد أن يقربني دائما إليه بسبب اهتمامي بالثقافة والسياسة ويحرص على استدراجي لمجادلته، وكان قبل سنوات نائبا لرئيس سلاح الفرسان وقلب نظام الحكم على عبدالناصر لمدة 24 ساعة وفشل الإنقلاب وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ثم خرج ليعمل بالحياة المدنية وتولى رئاسة إحدى الشركات ثم انتقل إلى استديو مصر.
في يوم قال لي: هيا بنا. ولم أكن أسأله إلى أين؟ وبعد فترة وصلنا إلى فيلا صغيرة وفوجئت أن حسين الشافعي يستقبلنا فاندهشت. كان في الصالون علي صبري وسيد مرعي واثنان لا أعرفهما يتناولون الشاي والفاكهة. بعدعشر دقائق أعلن الشافعي للحاضرين أن الريس وصل، وسرعان ما دخل الرجل الضخم يخب في بنطلونه الطويل العريض. جلس ونظر نحوي فقدمنى له المصري ودار حوار حول السينما وضرورة أن تصبح السينما المصرية ذات مكانة عالمية وهو مستعد لدعمها بكل ما تحتاج إليه. لمح الرئيس اليوسفي على صينيه كريستال كبيرة فمد يده وأقبل يأكل ثم سأل: ماذا فعلت يا سيد بالزراعة؟ البرتقال في الصيف؟
ضحك الحاضرون إلاي، كانت عيناي تتابعان كل حركة من حركاته وسكناته، عندئذ تجهم وجهه فقال واحد ممن لا أعرفهم: صيف وشتا إيه يا ريس .. البرتقال ده وصل من نصف ساعة من باريس.. كان نصف برتقالة في فم الرئيس.. حط على الجميع صمت ثقيل واسود وجهه واحمرت عيناه .. فتوقعت ما هو أسوأ.
فتح فمه وأسقط في كفه نصف البرتقالة وأسكنها سلة مجاورة وكانت هي الأخري ترتعش، ثم هب واقفا حتى خلت أن رأسه ستصطدم بالسقف. كان الرئيس قد جاء وحده دون سائق. نادي الشافعي سائقه وأمره بسرعة الركض نحو سيارة الرئيس وفتح الباب الخلفي وسوف يندفع داخلا بحكم العادة والجلوس على الكنبة الخلفية وعليك أن تسجل كل كلمة يقولها وكل حركة.. عاد السائق وهو يرتعد وقال وهو يلهث : لقد أخذ يضرب ظهر الكنبة التي أجلس عليها ويقول: الكلاب لا يحسون. البلد محتلة وهم يأكلون من باريس، ولا ندري ماذا يفعلون أيضا.. الكلاب .. الكلاب .. نفذ هذا المشهد في عقلي وروحي وأعماقي وحدد رؤيتي لمعنى الوطن ومسئولية القائد.
في عام 1971 أصدر السادات قرارا بعدم قيام الدولة بالإنتاج السينمائي، وترَك للقطاع الخاص هذه المهمة، على أن تقوم الاستديوهات بتأجير ما تملكه من آلات ومعامل وبلاتوهات وآلات تصوير وعمال لمن يشاء، وهذا يعني أننا كموظفين وعمال أصبحنا شبه عاطلين.
كنت قد كتبت كتابي على من أحب وبدأنا في إعداد ما يلزم وهكذا أسقط في يدي وجاء القرار في توقيت غير مناسب بالمرة فضلا عن أنني لا أتصور في ضوء الفترة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن يقوم القطاع الخاص بالإنتاج السينمائي ويغيب دور الدولة التي كان يمكن دون شك أن تنتج أفلاما تاريخية ودينية وسياسية جادة ومهمة، لذلك فكرت – على المستوى الشخصي- في البحث عن عمل إضافي بعد الظهر لتسديد أقساط الأثاث الذي اتفقت عليه. وما أن عرضت الأمر على صديق حتى قال: الوظيفة جاهزة، سألته عنها فقال: مدرس فلسفة في مدرسة ثانوية خاصة للبنات، سألته عن المكان فأدهشنى أن قال إنه في شارع شبرا بالقرب من شارع مسرة، أسعدني الخبر لأننى أحب الفلسفة ولأن المدرسة بجوار بيت خالتي "السيدة" التي تقيم في شارع مسرة، وبيتها ملاصق لسينما مسرة التي كنت أدخلها وأنا صغير من الصباح إلى المساء، وأخرج فقط عصرا للغداء دون أن أدفع مليما لأن زوج خالتي الحاج عبد العزيز شرف وكان وكيلا لأعمال قوت القلوب الدمرداشية صديق صاحب السينما.
قبلت على الفور ولم أكن أعلم أنني سأعاني مع الفتيات الكبيرات الناضجات المشتعلات رغبة في العلم والحب والمشاكسة، وثمة قصص كثيرة جرت أحداثها في هذه الفترة ليس المجال مناسبا لحكى تفاصيلها، لكنى وقعت بلساني في مرة دون أن أقصد وذكرت اسم بنت من البنات العفاريت أمام زوجتى فقررت من فرط غيرتها أن تضع نهاية لهذه الوظيفة، بأن أصرت على حتمية تركي للمدرسة، وبعد فترة دعتني لإعطاء درس خصوصي لابنة عمتها الثرية واستمر الدرس شهرين فقط لأنها أصرت على ترك الدروس تماما والرضا بالأحوال.
إبان عملي في المدرسة أنشأت أول نادي أدب في شبرا عام 1971، وقد نبتت الفكرة في خاطري بعد أن لمست موهبة لدى بعض المدرسين وهم من قاموا بجمع عدد من الشباب من هواة القصة والشعر والكتابة للطفل، كما كان هناك شباب من مرتادي مراكز الشباب وهي كثيرة في شبرا وعدد من رواد المكتبات. توسم شباب الأدب فى شخصي المتواضع مستوى لا بأس به من المعرفة الأدبية، وحسن الإدارة، كما كانوا راضين فى الأغلب عن أفكاري خاصة عندما اقترحت إصدار كتاب غير دوري بالتصوير لنشر القصائد والقصص القصيرة المؤلفة والمترجمة، والأخبار وعرض الكتب وسير حياة الأعلام (التراجم) من الأدباء العرب والأجانب. وكانت الندوة أسبوعية تعقد فى الدور الأول من بيت يملكه أحد المدرسين فى مدرسة التوفيقية الثانوية.
استمرت "ندوة شبرا" وتزايد أعضاؤها، وكنا نلتقي كل أربعاء من السادسة ولا نتوقف قبل العاشرة، وربما تجاوزناها. كانت تجتذب أدباء شباب وهواة من شبرا الخيمة وجزيرة بدران والقللي وقليوب والقناطر وبهتيم، وشبين القناطر والجيزة وحلوان وغيرها من أحياء القاهرة، وقد زارنا فيها: يحيى حقى ود. القط، ود. سيد النساج، ومحمد صدقي، ورجاء النقاش، وضياء الشرقاوي، والشاعر إبراهيم عيسي، وعنتر مصطفى، وعبدالغفار مكاوي، وفؤاد قاعود، وأسامة عكاشة، وعباس الأسواني، وعباس صالح، وعبدالحليم عبدالله، وأمل دنقل، ومحمودالعالم، وأمين ريان، وفؤاد نجم، وفاروق خورشيد.. ومن تعجز الذاكرة عن حصرهم.
كشف لي أحد الزملاء واسمه عباس قورة فى يوم أن هناك ضابطاً من مباحث أمن الدولة يحضر بانتظام منذ عدة اجتماعات، وأضاف إنه غير مرتاح لوجوده، سألته: وما الضرر؟ نحن نتحدث فى الأدب، وإذا انتقلنا إلى مكان آخر سيرسلوه وراءنا، أو يكلفوا غيره، فإما أن نستمر أو نلغي الندوة.
سألت الجماعة عن رأيها عن طريق التصويت فصوتت الأغلبية بالاستمرار، قال عباس قورة: أنا مع الديمقراطية، لكني أسجل عدم رضائي عن وجوده، خاصة أن الأوضاع السياسية ملتهبة، والمظاهرات كثيرة والشعب كله مؤهل للغضب فى أي لحظة، كما أن قوات الأمن مستنفرة، وأتصور أنهم الآن يريدون أن ينقضوا إذا أمكنهم الإمساك بأية خلية.. تبين لي بعد ذلك أن ضابط المباحث مولع بالشعر وقد سمع بالندوة فجاءها راغبا في الاستفادة وكانت لي معه قصة إذ ساعدته في كتابة الشعر وضبط أوزانه ودعمته بالكتب حتى استقام شعره ونشرت له في المطبوعة قصيدتين، وكانت سعادته مبالغا فيها، وكان النشر مثل أجنحة رُكبت له، وقد ساعدني الرجل بعد ذلك في الهروب من الحملة الضارية على المثقفين التى اقترفها السادات عام 1981 وظللت هاربا حتى سمعت باغتياله.
استمرت الندوة عامين ولم تحلها مباحث أمن الدولة وإنما حلها انفصالي مضطرا عن زوجتى بسبب أهلها حتى ساءت حالتي النفسية واستعرت رغبتي القديمة للتجوال في أوروبا فاقترح الأصدقاء السفر إلى ليبيا والعمل عدة أشهر أستطيع بعد ذلك السفر إلى أوروبا وهذا ما تم، وكنت كل ستة أشهر على الأكثر أسافر إلى دولة لأزور متاحفها وكنائسها وشوراعها وأتعرف على طرز العمارة والآثار القديمة والطبيعة الجميلة، وقد تحقق لي بعض ما تمنيت فزرت اليونان وإيطاليا والنمسا وسويسرا وقبرص وغيرها، وأثناء وجودي في ليبيا تعرفت إلى عدد من مثقفيها، أذكر منهم الصادق النيهوم وأحمد الفقيه وفهمي خشيم والتليسي وغيرهم، ولا أملك القدرة على نسيان قصة الفيلم الذي كلفتني بكتابته مؤسسة الخيالة الليبية عن منجزات ثورة الفاتح، فوافقت وكتبت السيناريو المطلوب، وبعد أن انتهيت قال لي رئيس المؤسسة إنهم يريدون فصلا أخيرا عن موقف الثورة من الرجعية العربية، فتوجست وسألتهم عن المقصود. قالوا: الملوك العرب والسادات وآخرين سنعطيك أسماءهم، فرفضت وطلبت منهم رفع اسمى من عناوين المشاركين في الفيلم. قالوا إن العقيد طلب هذا شخصيا، فقلت: لن أكتب حرفا مهما حدث ثم عدت إلى مصر.
ميدل ايست أونلاين