خمس سنوات على رحيل كمال عبدالجواد السينما المصرية!
خمس سنوات تمر اليوم على رحيل الفنان نور الشريف، إذ غاب عن دنيانا يوم الثلاثاء 11 أغسطس من عام 2015، ففقدت السينما المصرية آنذاك واحدًا من ألمع نجومها وأكثرهم إخلاصا بامتداد أكثر من أربعين سنة.
عرف عن الفنان الراحل هوسه بالثقافة واهتمامه بالقراءة، الأمر الذي جعله يسعى إلى تمثيل شخصيات روائية أو مسرحية شهيرة. وأظنك تعلم أن نور الشريف تقمّص أكثر من شخصية روائية ابتكرها سيد الرواية العربية نجيب محفوظ، لكني هنا سأتوقف عند بدايات نور الذي ارتبط – ربما دون وعي – بصاحب الثلاثية منذ طلته الأولى على الشاشة.
في آخر يوم من عام 1967 ذهب المصريون إلى دور السينما بالقاهرة لمشاهدة الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ، وهو فيلم “قصر الشوق”، فاكتشفوا وجود شاب جديد يظهر للمرة الأولى على الشاشة يؤدي دور كمال عبدالجواد، فشعر كل مشاهد على الفور أنه رأى هذا الشاب من قبل، وأنه قد يكون ابن عمه أو ابن خالته أو أحد جيرانه!
لم يكن هذا الممثل الجديد سوى نور الشريف الذي تكمن موهبته في قدرته المدهشة على منح من يراه شعورًا حميمًا بالألفة والمودة، ولعل هذا ما جعل المخرج حسن الإمام يغامر بتقديمه في دور بارز ومهم في رائعة محفوظ، ووفقا لما يقوله النجم عادل إمام فإن مخرج الثلاثية كان يبحث عن شاب يصلح لدور كمال عبدالجواد، فاقترح عليه عادل إمام اسم نور الشريف الذي شاهده آنذاك يمثل على مسرح معهد الفنون المسرحية.
استجاب المخرج لاقتراح عادل إمام، وذهب إلى المعهد وما إن التقى الشاب الواعد حتى أعطاه الدور المهم، فتفوق نور وأثبت حضوره بنجاح، رغم أنه وقف في هذا الفيلم أمام ثلاثة من جبابرة التمثيل هم: يحيى شاهين وعبدالمنعم إبراهيم وآمال زايد.
رمقه الهنود العاملون في المجلة بمحبة واهتمام، وأحدهم سألني بلهجة مصرية مضعضة: “هل هذا هو الحاج متولي؟”، وقلت للأستاذ نور ذلك، فضحك وقال لي: “إن الروسيات هتفن به في المطار.. حاج متولي.. حاج متولي”
مطاردة المعرفة
بوجه بشوش وعينين طيبتين وقوام معتدل طل نور الشريف للمرة الأولى على الجمهور بعد ستة أشهر فقط من هزيمة 1967، فاستقبلته الملايين المحزونة بمودة، بعد أن فقدوا إيمانهم بالوجوه القديمة التي تسيدت المناصب السياسية والأفيشات السينمائية، وبات الناس في حاجة إلى أي جديد بعد أن كفروا بالقديم الذي أسقطهم في بئر هزيمة موجعة للقلوب، وهكذا وجدوا في هذا الممثل الشاب مثالا حقيقيًا لطالب الجامعة الجاد أو العابث، خاصة وأن عمره يناسب عمر الطالب، إذ إن نور من مواليد 1946، (تذكر أفلام بنت من البنات 1968/ زوجة بلا رجل/ نادية/ بئر الحرمان 1969/ المراية/ السراب 1970/ شباب في العاصفة/ ثم تشرق الشمس/ المتعة والعذاب/ زوجتي والكلب 1971/ كلمة شرف/ الحاجز/ من البيت للمدرسة 1972).
في معظم هذه الأفلام وغيرها تقمص نور الشريف حالة الطالب الفقير أو الثري.. المشاغب أو المجتهد.. الخجول أو المقتحم.. النبيل أو الخسيس.. لا يهم، فهو قادر بأدائه المتفرد أن يقنعك بما يريد، خاصة وأنه تمتع بنبرة صوت مميزة.. طيعة.. سهلة التلون، وقد أدرك نور ابن المرحلة الناصرية أن الممثل غير المثقف لا قيمة له ولا مستقبلا باهرًا في انتظاره.
في إحدى اللقاءات التلفزيونية وصفت النجمة سهير رمزي، نور الشريف بأنه “سوسة قراءة”، وبغض النظر عن ركاكة التعبير إلا أنه يوضح لنا غرام بطل “سواق الأوتوبيس” بالمعرفة، فأمسى يطاردها في كل مكان، لذا لا عجب ولا غرابة أن يتقمص بشكل آسر شخصية رجل في الأربعينيات رغم أن عمره كان في حدود الخامسة والعشرين عندما شرع في تصوير الجزء الأخير (السكرية) من ثلاثية صاحب نوبل 1988.
السكرية
في ظني أن شخصية كمال عبدالجواد في الأدب تعد من أهم الشخصيات الروائية العربية نظرًا لما تكتنفها من تناقاضات حادة ومشاعر متابينة مرت بها الشخصية بامتداد ربع قرن، وقد بذل نور الشريف مجهودًا خارقا حين تصدى لتقمصها في الجزء الأخير من الثلاثية (السكرية) إذ كان عليه أن يلوح على الشاشة بوصفه كهلا تجاوز الأربعين، بالرغم من أنه لم يكمل عامه السادس والعشرين في الحقيقة. في هذا الفيلم بلغ نور مستوى مشرقا في فنون الأداء التمثيلي، وشعر كل من شاهد الفيلم – أو قرأ الرواية – أنه أمام إنسان حزين.. محبط.. فقد الإيمان بمبادئه الأولى، بعد أن مات سعد زغلول وانهار أمامه بنيان أبيه الجاد وهجرته المحبوبة التاريخية عايدة شداد.
هكذا عايش نور الشريف أجواء الشخصية المنهارة نفسيًا ببراعة، وليتك تذكر نظرة عينيه المفعمة بالحيرة والقلق والاضطراب والجهل حين أخبرته ميرفت أمين – شقيقة الحبية القديمة – أنها لن تستطيع التواصل معه وهو لا يزال أسيرًا لامرأة أخرى حتى لو كانت شقيقتها!
انحناءة خفيفة في الظهر ونظارة صغيرة مدوّرة وأناقة كلاسيكية صارمة وخفوت في نبرات الصوت وخطوات هادئة منكسرة ونظرات شاردة حزينة نحو مجهول غامض وخفي هي العدة التي تدرع بها نور الشريف عندما دخل في (ثياب) كمال أحمد عبدالجواد في السكرية، فأقنع الناس وأعجبوا به ربما لأنه يعبر – بصورة ما – عن أحزان المصريين بعد الهزيمة ووفاة الزعيم عبدالناصر، إذ عرض الفيلم للمرة الأولى في 14 يناير/كانون الثاني 1973، أي قبل نصر أكتوبر بتسعة أشهر تقريبًا!
ذكريات خاصة
بيني وبين الأستاذ نور الشريف حفنة لطيفة من الذكريات الخاصة، فقد شاهدته للمرة الأولى في صيف 1979، عندما أنهيت الثانوية العامة وكنت أحلم بدراسة الإخراج السينمائي والتمثيل، وبالفعل توجهت نحو أكاديمية الفنون بالهرم مع اثنين من أصدقائي، ومررنا بالصدفة في طريقنا باستوديو النيل – أظن أنه ستوديو نحاس قديمًا – ورأينا نجمنا المفضل واقفا مع حسن الإمام. اقتربت منه وصافحته وأخبرته أنني أجيد الرسم، وبسرعة رسمت له – على ورقة صغيرة – بورتريه بقلم جاف، فشكرني الأستاذ نور وطلب مني أن أرسمه على ورقة أكبر ليضعها في برواز ويعلقها في بيته. وبالفعل اتفقنا على موعد لكنه أخبرني أنه يأتي يوميًا إلى هذا الاستوديو لعمل المكساج في فيلم “الحب وحده لا يكفي” للمخرج علي عبدالخالق، ولما أعطيته الصورة التي طلبها مني تلقاها بسعادة، ففرحت كثيرًا جدًا.
ظللت نحو عشرة أيام أتردد على الاستوديو وألتقيه وأتحدث إليه، ثم مرت الشهور والسنون، وغادرت القاهرة إلى دبي، وفي أحد أيام عام 2008 زارنا نور الشريف في مجلة “دبي الثقافية” بدبي، والتقى رئيس التحرير الأستاذ سيف المري الذي احتفى به، ثم جلس في مكتبي وتحدثنا كثيرًا، ورمقه الهنود العاملون في المجلة بمحبة واهتمام، وأحدهم سألني بلهجة مصرية مضعضة: “هل هذا هو الحاج متولي؟”، وقلت للأستاذ نور ذلك، فضحك وقال لي: “إن الروسيات هتفن به في المطار.. حاج متولي.. حاج متولي”. ثم ذكرته بما كان من لقاءات بيننا قبل ثلاثين عامًا، وأشهد أنه رجل بسيط متواضع عاشق للوطن والناس!
لروح نور الشريف السلام والرحمة.
ميدل إيست أونلاين