خواطر زمن
خواطر زمن…قال إعرابي يوصي ابنه:”وعليك باليأس. فإنك لم تيأس من شيء إلا وأغناك الله عنه”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ربع قرن، وفي ليلة آخر السنة كتبت:
“كتاب وصايانا فقير.
ودساتير حياتنا مخربشة
وشعارنا ما يزال وحشياً”
افتك بمن حولك أيها القوي لتجعل الحياة عسيرة على سواك”
يقولون هناك ثلاثة أنواع من الصلوات القديمة:
الأولى: أنا قوس في يديك يا مولاي… شدّني لئلا أتفسّخ.
والثانية: لا تشدّني كثيراً يا مولاي… لئلا أتحطم.
والثالثة: شُدّني كثيراً… فمن سيهتم إذا تحطمت؟
ـ 2 ـ
هذا الشاب الضحوك النحيل، الذي أصابته قذيفة فقطعت ساقه…
كان قد تجاوز الآلام كلها، وأصبحت ذكرى آلام تلك اللحظة، حين لا أحد يسعفه في أعالي الجبال والليل والشتاء… قال لقدمه تعالي ندخن. دخن كل ما لديه من تبغ، وهو الآن يريني ساقه الصناعية ويستعرض تآلفها مع جسده بعد أقل من سنة.
أمس… أمس الزمن السائل بلا معنى، وعلى مسافة دائمة الفراغ من كل شيء ذي جدوى… وقفت أمام بائع السيقان الاصطناعية. حيث وراء الزجاج عدة أنواع للاستعمالات المتعددة لإصابات متعددة كلها تحت عنوان: ” نحن نعطيك ساقاً صالحة للمشي” ثمة سيقان بدائية كأنها خردة من حديد، وثمة سيقان خادعة كأنها حقيقية. وثمة مستعملة وجديدة، تأملتها وتذكرت ذلك الشاب المزهو بخطواته التي تبدي تعثراً خفيفاً كأنها ، وهي تمشي معه بايقاعه ، مشفقة على الأرض.
حين بدأت أحس بتنمل في ساقي، فكرت بأن المسافات المسموحة للتجوال تقلصت… قلت: ساق، للإشفاق على الأرض، تكفي. دخلت إلى المخزن وقلت للبائع سأجرب قياساً لليمنى. وحين طلب مني التشمير عن ساقي، ووجدني سليماً… ضحك.
قلت له: غداً آتي إليك.
ـ 3 ـ
نظريتي: لكي تتخلص من رضوض الحب الخائب… امشِ مائة وواحد كيلو متر. نصحت بهذه الوصفة عدداً من الخائبين. أحدهم جربها، بحذاء واحد، وحين أنهى الكيلو واحد بعد المائة جلس يستريح على مقعد في حديقة تشرين.
على المقعد المقابل كانت فتاة، بحذاء رياضي، تجلس وتستريح، كأنها أنجزت الكيلو واحد بعد المائة. هكذا خيل إليه. نهض، واتجه إليها وسألها بابتسامة بريء معافى من رضوض حب خائب . سألها: هل أنهيته؟
ابتسمت وقالت: كيف عرفت؟
جلسا معاً. وشربا شاياً، وتحدثا عن نظريته التي قرأتها على صفحته في الفيس بوك، ثم قال مازحاً:
تعالي نبدأ من جديد. وافقت، لفرط فكاهة الفكرة.
في اليوم التالي لم يأت إلى الحديقة. كانت قذائف هاون قد أطاحت نصف ساقه اليمنى. وكان عليه أن ينتظر الانتهاء من التدرب على استعمال الساق الاصطناعية.
هي ذهبت معه لتفصيلها، في محل بيع السيقان إياه.
ـ 4 ـ
اليوم، السبت، ذهبت إلى القصاع ـ باب توما لحضور جنازة في كنيسة الأرمن. جلست مستمتعاً بصوت البخور ورائحة الصلاة. ولم أفهم شيئاً بالطبع، ولكن اللغة الأرمنية كانت تأتي إلى خزان ثقافتي عن الأرمن، وتقول لي: الصلاة صلاة تتجلى في النبرة الحزينة لابتهال الضعيف. وبعد التحول إلى اللغة العربية، في القسم المخصص للترحم على الميت، بفصاحة وبلاغة النبرة التي تنطوي عليها اللغة العربية شعرت بأن الرحمة ليست متوفرة في نبرة الصوت.
فكرت بأن التسلل العنيف إلى اللغة قد جاء من نبرة العثماني وهو يأمر الأرمن بالركوع ليسهل دخول الرصاص في فقرات لغتهم.
اللغة بيت الكائن !
خرجت من الكنيسة .تسكعت في باب توما. شربت سحلب .التهمت سندويشة فلافل .أمطرت قليلا .مشيت الى المرجه.دمشق يوم الجمعه ترتب لك الهدوء اللائق بيوم عطلة .
يوم يليق بسعادة النجاة مرات عديدة من الموت .