أطياف

خواطر متناثرة

خواطر متناثرة…- في وداع الأصدقاء/ أشقاء الروح، سواء في أسفارهم عبر هذا الكوكب الجميل، حتى بأوجاعه، أو كان الرحيل فراقاً أبدياً، غالباً ما أردد ملتمساً نسيمات من عزاء:

شهقةً، شهقةً يرحل الأصدقاء القدامى/ رحيل الخزامى/ طيوفاً خفافا.. كما في رفيف الندى/ وانطفاء الحبق…/ وأبقى كفزّاعة الحقل/ نبقى معا ها هنا، يا صديقي/ كأنّا ظلالُ الحكايات../ أو رجع أصدائها/ وأشهق: ماذا تبقّى لنا، يا صديقي/ غير هذي المناحات/ مفجوعة نازفة؟/ فيا صحبة الزمن المستحيل/ حسبنا أن نواري جنازاتنا../ رغم هذا الوباء الوبيل/ ونلتفُّ حول جراحاتنا كالدمى بين أيدي الصغار/ وما لنوال المنى من سبيل…

****

– كتاب “الصعاليك في العصر الجاهلي” للباحث الدكتور يوسف خليف من أهم الكتب التي تركت في نفوسنا وأفكار جيلنا أثراً بليغاً. وفي الجامعة كنا نتغنى بثورة الصعايك ونحلم بتدمير قلاع القبائل المعاصرة. لكن، يا حسرة! لم نفلح، في خاتمة المطاف، إلا في تدمير أنفسنا والقيم التي كنا نستمسك بها؛ ولم نؤسس، ولو أغنية أو بشارة لأي قيمة حضارية/ إنسانية جديدة. إن الدعوة للقطيعة مع التراث والتخلي عنه كلياً بطريقة عشوائية طائشة سلوك لا يجدي. ولا بد أن ندرك أن ليس كل موروث صالح للحياة، إنما لا بد من الاستمساك بالتيار الحي في ما ترك الأجداد ونبذ كل ما عداه، دون أن ننسى أن التاريخ علم المستقبل- كما يقال، نأخذ منه ما يفيد حياتنا ويدعو إلى التطور والتجديد.. ونهمل كل ما تخطاه الزمن وبات عبئاً على مسيرة الحياة…

****

– مر على كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” للفيلسوف الأميركي هربرت ماركوزه نحو ستين عاما، وكارثة التشظي الاجتماعي لا تزال في تفاقم وازدياد، والأنانية العقيمة والفردية العشواء/ قاطرة الاستبداد بالرأي وإلغاء الحوار والاعتراف بالآخر، وإعدام كل اختلاف بالرؤى والآراء، هذه الهنات السلبية هي علة تأخرنا، دون أن ننسى أن استغراق أباطرة العصر في نشوة الغرور والإعجاب وهم يتملّون وجوههم وثرواتهم في قاعات المرايا، وقد تحولت غالبية البشر، أفراداً ومجتمعات، إلى دمى كرتونية وضحايا نظام صناعي عالمي من الطواغيت قائم على هستيريا الصراع مدعوم  بقوى الإنتاج والاستهلاك، وتخدمه إمبراطوريات إعلامية/ إعلانية تحاصرنا ليل نهار، ولا من كوة للفرار أو الخلاص. وحتى الفنون الوجدانية من شعر وقصص وتشكيل ومسرح وأفلام.. لا يمكن لها أن تتنفس أو تعبر عن هواجس المبدعين وأحلامهم وعذاباتهم إلا في دوائر ضيقة مغلقة تستجدي السماح والقبول من تلك الإمبراطوريات الوحشية المهيمنة.

****

– في الستينات من القرن الماضي، كنا نتصور أن كتاب ماركوزه نذير مشؤوم سوف يقتصر على العالمين الشيوعي والرأسمالي، بينما سوف تظل مجتمعاتنا المتخلفة سليمة طاهرة من أخطار ذلك الوباء تحت قناع (الدول النامية) الأيقونة التي كان يتغنى بها العباقرة من أصحاب (المزارع) الإقطاعية المتوارثة من السلطنة العثمانية. لكن النزعة الاستهلاكية الطاغية، والتي تحولت إلى سعار وبائي جارف بفعل ثورة الاتصالات وهوس التقليد الأعمى، سرعان ما سيطرت علينا، أفرادا ومجتمعات وجرفتنا جميعا بلا استثناء، وحل المجتمع السياسي المصنّع بقوالب بيروقراطية لا ترحم محل المجتمع المدني وأفكاره الحرة ومشاوراته الجماعية المتسامحة. لقد التغى الحوار والتشاور حتى في البيوت، وسادت الأوامر والنواهي الكهنوتية. وصار من الحماقة المدمرة أن تفكر أو تحاور أو تعترض لأن (العباقرة) المحاطين بهالة سماوية مقدسة في كل بيت، وكل حارة، وكل دائرة، أخذوا دور القضاء والقدر، ولا مكان للمفكرين والأدباء وأساتذة الجامعات إلا بقراءة المقررات المعقمة… وطوبى لهربرت ماركوزه وكتابه المقدس (الإنسان ذو البعد الواحد).

****

– كان الشعر ديوان العرب في النصف الأول من ذلك القرن، وكانت قصيدة الجواهري أو عمر أبو ريشة وأنشودة الشابي تحرك آلاف الجماهير، وتسقط الحكومات… يومئذ كان للفكر والثقافة دورهما المستنير والمنير الفعال في المجالس والمقاهي والمنتديات، ثم حشرنا داخل أسلاك المزارع (العصملِّية) وتحولنا، أفرادا وتجمعات، إلى معلبات فردية زاهية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي منابر للتسلية والاطمئنان أن الأهل والأصدقاء ما زالوا بخير ولم يرحلوا بعد، وإن كانوا مسحوقين في طواحين السوق وطغيان الحاجة والغلاء…

****

– لقد أمضيت سنة وبضعة أشهر بين دمشق وحمص، والدمار المرعب الذي شاهدته وعشت فظاعته الخانقة في هاتين المدينتين يكفيني وجعا إلى أن تتحول عظامي إلى رماد. ولقد بلغت أعصابي حافة الانهيار فلم أتجاسر على زيارة الأحبة الأصفياء في حلب. ومما يزيد النفس قهرا أن الخراب جاء مصحوبا بوباء أفظع وأشد وبالا، وهو الفساد، بدءا من عائلتنا.. حيث صار الأخ عدو أخيه، والابن عدو أبيه، ولا يتنازل أن يتكلم معه! ولا شك أن الحالة الاجتماعية أفظع وأشد هولا وانهيارا…

هذا التفكك العائلي والاجتماعي الذي بلغ حالة مرعبة من التشظي هي التي دفعتني للفرار من جديد. وكل ما أرجوه أن يأخذ الله أمانته قبل أن أغادر هذه البلاد التي تحلم آلاف الملايين، في مشارق الأرض ومغاربها، بزيارتها والعيش فيها…

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى