داريّا ودمشق والحرب والعنب الديراني !
كان بإمكان القاطنين في المزة، وعلى الطريق المحلق الجنوبي الذي يحيط بدمشق، وحتى أولئك المسافرون إلى القنيطرة مشاهدة سحب الدخان التي خلفتها إجراءات الإخلاء التي قامت بها المجموعات المسلحة قبل أن تغادر مدينة داريّا ظهيرة يوم السبت 27 آب 2016 .
هذا المشهد أعادني إلى عام 2011، ويومها، كان عليّ أن أعود من مقر القناة الإخبارية السورية الأساسي في ((دروشا)) بعد ظهيرة صاخبة من يوم جمعة حافل بالأخبار العاجلة عبر قناتي الجزيرة والعربية عن تظاهرات تقع في أنحاء متفرقة من دمشق، كان برفقتي في السيارة صديق صحفي ينبغي أن أوصله إلى بيته في المعضمية المتصلة بداريا ..
واجهنا حاجز للجيش، وطلب منا الاتجاه في طريق آخر يجعل الطريق إلى دمشق مضاعفا، وقال الجندي بحزن وحيرة:
ــ هناك قنص ، ولانستطيع السماح بمرور المدنيين من هنا!
استدرنا حول دمشق من جهة صحنايا، وسط ازدحام صعب، وبعد نحو ساعة عدنا من جهة دمشق في سبيل الدخول إلى المعضمية . وقفنا على جسر مطار المزة، حيث كان ثمة حاجز آخر يمنع المدنيين من الذهاب باتجاه المعضمية للأسباب نفسها..
كانت سحب الدخان تتصاعد منها ومن داريا . نظرت في وجه الصحفي، وقلت له :
ــ هذه حرب يارجل !
وهز رأسه موافقا :
ــ نعم إنها حرب ..
كانت سحب الدخان تلك غير سحب الدخان التي شاهدناها فيما بعد . كانت تنشأ عن إشعال الحرائق في الحاويات وعجلات السيارات التي يغلق فيها المتظاهرون الساحات العامة ومفارق الطرق، وكنا نسمع رشاقات رصاص بوضوح، وكل ذلك لم يكن سوى البداية ..
قلت للصحفي : ستنام عندي!
فسألني: وأولادي؟!
وكان الحق معه ، فقد انتظر حتى الصباح يتصل بين لحظة وأخرى ببيته !
مرت خمس سنوات ونصف السنة على تلك الأحداث، ولم تعد داريا هي داريا، ولم تعد المعضمية هي المعضمية، ولم تعد سورية هي سورية.. لكن الذي يقال إنه لم تلد تلك المظاهرات ربيعا أبدا بل كانت بداية لأحداث تتوالد لتشكل حربا وحشية سقط فيها حتى الآن من القتلى والجرحى ما يعادل عدد سكان سورية في مطلع القرن العشرين !
هاهي داريا تقفل أبواب الحرب التي مرت، وعندما تصغي إلى صمتها لاتسمع صوت بائعي العنب الديراني الجوالين، ولاتسمع صخب الحياة وضجيجها الذي كان يسمها في سنوات ماقبل الحرب ..
أضحت داريّا نموذجا من نماذج المدن السورية التي أصابتها الفتنة، وعمّها الخراب.. غادرها السكان الباقون. المجموعات المسلحة التي فيها غادرت إلى أمكنة أخرى، أو تركت السلاح .. تحولت السنوات التي مرت إلى صفحة من تاريخ لم يكن أحد يصدق أن هذا الحشد من النسوة والأطفال والعجائز ظلوا في هذه المدينة التي شبعت حربا ومعارك ودمارا .. أقفلت داريا أبوابها، وأضافت شيئا جديدا إلى التاريخ هي أنها تمردت على دمشق وعاشت حربا ضروسا لأكثر من خمس سنوات، ثم خرجت وسط دخان يشبه دخان الأيام الأولى !
تقع داريا على مرمى حجر من دمشق، حتى أن أهل الشام يتذكرون حتى الآن العنب الديراني، وأصوات البائعين الجوالين القادمين منها وكأنهم ينادون الآن على العنب الديراني الذي قطف لتوه من كرومها ..
كان ثمة امرأة تبكي وهي تودع المكان الذي تعيش فيه، فأي حرب هي التي تجعلك تجمع أشياءك وتغادر تاريخك إلى الأبد.. أي حرب تلك التي تجعلك تغادر المكان الذي عشت فيه حياتك ؟! الجواب عليه هو نفسه الذي يمكن أن يرد على سؤال آخر يقول : ما الذي يجعل الناس يبقون في بيوتهم تحت وطأة حرب لاترحم ؟!
تلك هي مأساة سورية ..
داريا هي كلمة سريانية تعني البيوت الكثيرة، مشتقة من كلمة دار، والنسبة إليها داراني، وقد تحولت لتصبح ديراني، وقد أوردت الموسوعة الألكترونية ــ ويكي ــ أن داريّا تعود إلى ما قبل الميلاد ويرتبط وجودها بوجود دمشق التي هي أقدم عاصمة بالتاريخ. كان موقعها إلى الجنوب من مقام ومسجد عبد الرحمن العنسي المعروف بأبي سليمان الداراني ما يعرف بأرض حلاش وبداريا مقام أو قبر النبي حزقيل كما يروى..
ويذكر أن عبد الله بن ثوب المعروف بأبي مسلم الخولاني قدم داريا بعد الفتح الإسلامي ونزل بها لوجود قبيلة يمنية استوطنتها قبل الإسلام هي بني خولان المتوفي عام 62 هجري.
لم تكن هذه المعلومات الواردة في شبكة الانترنت المحطة هي الوحيدة في تاريخ البلدة التاريخية، فتورد كتب التاريخ أن داريا كانت معقلاً للغساسنة إلى أن جاء الفتح الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح عام 635م ء فكانت هي أكبر قرى، أهل اليمن بغوطة دمشق وأقاليم الشام وتأثرت داريا بمعظم الأحداث التي اعترت الحكم الأموي والعباسي وما جرى خلالهما من أحداث سياسية وعسكرية وخاصة. بمنازعات الخلافة كون داريا تقطنها قبائل يمنية ((خولان وعنس)) وأخرى قيسية. وتعرضت داريا للحرق نتيجة تلك المنازعات عام 26اهـــ وكذلك عام (67) هـــ بعصر هارون الرشيد ثارت الفتن بين القيسية واليمانية أو ما يعرف بفتنة أبي الهيذام حيث حرقت ونهبت ..
في عام (233) هـــ تأثرت داريا بالزلازل. وكذلك مرت على داريا أحداث ومنازعات ما بين الأتابكة والسلاجقة عام 416هـ/ 417هـ ولم تنج من الغزو الصليبي عام (543) هـ وكذلك التتار عام (799) هـ قد عاثوا فيها فساداً وتدميراً كان آخرها الاحتلال الفرنسي لسورية حيث وقعت فيها معركة سميت معركة داريا الكبرى على أثر حضور بعض رجال قادة الثورة السورية عام 1926 إلى داريا وكان منهم الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ محمد حجازي وكان عدد المجاهدين ما يقرب من خمسة وخمسين بينهم بعض المجاهدين من أبناء داريا اشتبكوا مع القوات الفرنسية وكان في يوم الأحد 10/12/ 1926م.
ومن الآثار التي عثر عليها في داريا إله الحب عند الرومان ((ايروس))الموجود في المتحف الوطني بدمشق.
لايمكن الحديث عن علاقة داريا بالحرب السورية الأخيرة ، إلاّ بعد التعرف على موقعها وسكانها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية في المرحلة الأخيرة ، فهي بوابة مدينة دمشق من الجنوبية الغربية ، وتصنف بأنها أكبر مدن الغوطة الغربية ويَحدها من الشمال حي المزة ومعضمية الشام ومطار المزة العسكري، ومن الغرب جديدة عرطوز ومن الجنوب صحنايا وأشرفيتها، ومن الشرق حي كفر سوسة وحي المزة وحي القدم.
على صعيد عدد السكان ، كان يعيش فيها عام 2007 أكثر من 255 ألف نسمة ، ومن هؤلاء من يعمل بالزراعة أو الصناعة أو التجارة ، أما طيفها السكاني، فهو من التنوع السكاني الدمشقي المعروف ففيها إسلام ومسيحيون (أرثوذكس وروم الكاثوليك) ، وتبدو هذه المعطيات المثيرة أهم معطيات الحراك الذي جرى فيها، في كل الأبعاد التي يشتغل عليها المحللون الموالون والمعارضون ..
لم تمض أيام على موعد إنطلاقة ، ماسميّ ب((الربيع السوري)) حتى انضمت داريا بتظاهرة يوم الجمعة 25 آذار 2011، وسريعا اشتعلت داريا بمواجهات مع السلطات وقد عرف من النشطاء المعارضين غياث مطر الذي كانت وفاته محركا إضافيا ضد السلطات السورية ، وكما هي الحال في عدد من المدن السورية تصاعدت المواجهات وسقط الكثير من الضحايا، وتوالدت الضغائن إلى الدرجة التي صار من الصعب العودة عنها. وتورد مراجع المعارضة المسلحة تفاصيل عن انشقاقات عسكرية متتالية، أفضت مع تصاعد واحتدم الصدام مع إلأى الجيش إلى تشكيل لواء الاسلام الذي يعتبر واحدا من الفصائل المسلحة المعارضة..
وفي سجلات السنوات التي مرت من الحرب الكثير من التفاصيل العسكرية الدامية التي خسر فيها السوريون من الجيش والمعارضة المسلحة الكثير من الشهداء والضحايا إضافة إلى الخسائر المادية الفادحة والخسائر المادية الفادحة ، قبل الوصول إلى اتفاقات الانسحابات الأخيرة التي تركت داريّا ((ذاكرة)) مجروحة تسأل عمن كان السبب في فتنة المجتمع السوري كله .
ما أن خرجت المجموعات المسلحة في 27 آب 2016 حتى دخلها وزير الدفاع السوري فهد جاسم الفريج ثم أعلن رئيس بلديتها مروان عبيد: إن «المدينة أصبحت الآن خالية من المسلحين». وأكد عبيد وفق الوكالة، أنه «تم الانتهاء من مراحل اتفاق خروج المسلحين، موضحا أن المرحلة الثانية والأخيرة من الاتفاق تم الانتهاء منها بخروج 800 مسلح وعائلاتهم من داريا باتجاه محافظة إدلب.
وفي التفاصيل الرسمية للاتفاق، بينت وكالة سانا السورية أن المرحلة الثانية من تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه لإخلاء مدينة داريا في غوطة دمشق الغربية من السلاح والمسلحين تمهيداً لعودة جميع مؤسسات الدولة والأهالي إليها انتهت. وقالت الوكالة في تقرير لها : إنه تم نقل آخر دفعة من المدنيين إلى مركز الإقامة المؤقتة في الحرجلة إضافة إلى نقل من تبقى من المسلحين مع عائلاتهم إلى ريف إدلب». وأوضحت أن المسلحين ” قاموا بإحراق العديد من مقراتهم داخل المدينة بما فيها من حواسيب وأجهزة اتصال وكل ما يمكن أن يدل على جهات ارتباطهم الخارجية”. إلى ذلك قام محافظ ريف دمشق علاء إبراهيم بجولة في بعض أحياء مدينة داريا اطلع خلالها على الوضع العام في المدينة، حيث أكد في تصريح للصحفيين أن المحافظة ستعمل على إرسال الفرق الهندسية إلى المدينة لدراسة وضع خطط لإعادة إعمار المدينة بمشاركة الأهالي.
ولفت المحافظ إلى أنه يتم نقل الأهالي من المدينة إلى مركز إقامة مؤقتة في قرية الحرجلة بمنطقة الكسوة يضم 724 شقة سكنية منها 300 جاهزة للسكن مباشرة ومزودة بجميع مستلزمات الإقامة.
ونقلت صحيفة «الوطن» السورية عن مصادر مطلعة ، أن المسلحين «أطلقوا 9 عسكريين (من الجيش العربي السوري) كانوا مختطفين لديهم». كذلك ذكر «المرصد»، أن سيارات إسعاف دخلت إلى مدينة داريا، تحضيراً لإخراج «نحو 20 أسيراً على الأقل لدى الفصائل في داريا»، معظمهم من عناصر قوات الجيش العربي السوري والمسلحين الموالين لها، إضافة لنقل جثث الشهداء من عناصر قوات الجيش والدفاع الوطني والمسلحين الموالين لها.
على خط مواز، وصلت أمس أول دفعة من مقاتلي داريا وعائلاتهم، ممن تم إجلاؤهم من داريا، إلى مدينة إدلب. وأكد مدير «المرصد» رامي عبد الرحمن وصول «خمس حافلات على الأقل إلى مدينة إدلب تقل مقاتلي المعارضة وعائلاتهم المهجرين من مدينة داريا» مقدراً عددهم بـ600 شخص بين مقاتل ومدني. ويقضي الاتفاق بخروج 700 مقاتل إلى إدلب وأربعة آلاف من الرجال والنساء مع عائلاتهم، إضافة إلى تسليم المقاتلين لسلاحهم المتوسط والثقيل.