دار الحرب ودار الإسلام وما بينهما من معان
مفهوم دار الحرب ودار الإسلام من المفاهيم المركزيّة في التنظير الجهاديّ الإسلامويّ، بالقوّة، ومن أجلها، ينجز عند جماعاتها تأصيليّته لزمانه في تراثه الإسلاميّ. تتعدّى رغبة القوّة دور التأسيس لعالم تستعيد فيه الذات المسلمة حقّها في أن تكون، لتتّخذ دور الوسيط السياسيّ، إيديولوجيا لرسم خارطة إسلاميّة للعالم. فحين تصبح دار الإسلام تلك الدار التي يحكمها الإسلام، وحين تصبح دار الكفر تلك التي لا يكون فيها الحكم للإسلام، يجرّد مفهوم الدار من دلالته على طريقة أهل زمانه في تحديد مجالهم السياسي، ويفقد في الأثناء إحالته على حدس مجتهدي الإسلام الأوائل باتساع ممكنات الإيمان، بل يغلق الباب دون عالميّة الإسلام وعياً مضمراً بالحق لكلّ الخلق في أن يعيشوا بسلام.
وهذا الكتاب “دار الحرب ودار الإسلام” الذي شارك فيه مجموعة من الباحثين العرب وأشرف عليه بسام الجمل وأعده ونسقه أنس الطريقي، تناولت بحوثه وموادّه ثلاثة محاور أولها: دار الحرب ودار الإسلام في التراث الإسلاميّ القديم: في النصّ التأسيسيّ والنّصوص الثواني “القرآن، والسنّة والفقه”. والثاني المفهوم في التأويل الجهاديّ: من التنظير إلى المراجعة: من عبدالسلام فرج “التنظير الأساسي الأوّل للجماعات الجهاديّة” إلى أيمن الظواهريّ، إلى د. فضل “عبدالقادر بن عبدالعزيز” الذي صاغ مراجعاته ودعوته إلى إيقاف العمل الجهادي في “وثيقة ترشيد العمل الجهادي”؛ ومن أبي محمّد المقدسيّ إلى أبي مصعب الزرقاوي الذي رفض مراجعات المقدسيّ. والثالث المفهوم وإمكانيّات التأسيس للتعايش.
إلى أيّ مدى يمكن أن نعوّل اليوم على مفاهيم قديمة أوجدتها سياقات تاريخيّة مخصوصة في فهم الواقع المعاصر بتعقيداته وتحدّياته؟
الكتاب الذي صدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود قدم له الباحث أنس الطريقي مؤكدا مفهوم دار الحرب ودار الإسلام من المفاهيم المركزيّة في التنظير الجهاديّ الإسلامويّ. وقال “لئن شهد عند أعلامه المنظرين عمليّة مراجعة، فإنّه حافظ على مدلوله التكفيري الموسّع منذ تأويله القطبيّ. فقد احتفظت المراجعات الجهاديّة بالتحويل المنجز لدار الكفر من الدار التي يكون أهلها غير مسلمين إلى الدار التي لا تكون فيها الغلبة للإسلام ولأحكامه، بصرف النظر عن ديانة أهلها. وعلى هذا النّحو، قرّر المصري د. فضل “عبدالقادر بن عبدالعزيز” والزهرانيّ، وغيرهما من الجهاديّين، أنّه لا دخل لظهور شعائر الإسلام أو الكفر في الحكم على الدار، وأنّ “دار الإسلام هي كلّ بلد، أو بقعة، تعلوها أحكام الإسلام والغلبة والقوّة والكلمة فيها للمسلمين، وإن كان أكثر سكّان هذه الدار من الكافرين. ودار الكفر هي كلّ بلد أو بقعة تعلوها أحكام الكفر، والغلبة والقوّة والكلمة فيها للكافرين، وإن كان أكثر سكّان هذه الدار من المسلمين” ـ نقلاً عن الحركات الإسلاميّة في الوطن العربيّ”.
وأضاف “على هجانة هذا المدلول المسند للمفهوم، فإنّه وثيق الصّلة بتصوّرهم للتوحيد، والجهاد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما أنّ له أصولاً تراثيّة يمكن تتبّعها جنيالوجيّاً، وصولاً إلى القرآن والسنّة عبر محطّات تمثّلها، تراجعاً، تنظيرات سيّد قطب والمودودي، فابن تيميّة، فابن حنبل، فالفقه الإسلاميّ عموماً. من هنا يكون التصدّي لهذا المدلول المتعارض مع شروط التعايش الإنسانيّ، الذي يمثّل قيمة كبرى لرسالة الإسلام، مرتبطاً، في وجه منه، ببيان مقدار الانزياح المنجز بهذا المفهوم عن مقاصدها وغاياتها، في ارتباط بأهداف إيديولوجيّة متعدّدة الأبعاد.
وأوضح الطريقي أنه من هذا المنظور يهتمّ الملفّ البحثيّ الذي يضمه الكتاب بمفهوم دار الحرب ودار الإسلام في التنظير الجهاديّ الإسلامويّ بالتركيز على عمليّة التأويل الممارسة على النصّ، وعلى التراث الإسلاميّ، لتحويل هذه التقسيمة إلى مسوّغ للعنف باسم الإسلام، تبيّناً لمستنداتها المعرفيّة، ومرجعيّاتها النظريّة، وتقييماً لدرجة توافق عمليّة التأويل المنجزة مع مداها الذي يسمح به النصّ المؤسّس والنصوص الثواني، بين سياقيه التأويليّين القديم والمعاصر.
الباحثون المشاركون هم: مراد الحاجّي، علي بن مبارك، العربي إد ناصر، عبدالرزّاق الدغري، عارف عليمي، ياسين باهي. ويكتمل المضمون المعرفيّ المحلّل لمفهوم دار الحرب ودار الإسلام بمضامين إضافيّة تحملها القراءة في كتاب، التي يقترحها سعيد عبيدي لكتاب واحد من المفكّرين المعاصرين المعروفين بسعيهم إلى تقديم رؤية بديلة للإسلام تمكّنه من الاندراج في زمانه عبر قراءته المعاصرة للقرآن، هو السّوري محمّد شحرور في كتابه “تجفيف منابع الإرهاب”. ويساهم الباحثان محمّد سويلمي وحسّان الرّابحي، في الملفّ، بتعريب نصّ مهمّ في الموضوع من اللّغة الإنجليزيّة للباحث الباكستاني محمّد مشتاق أحمد. وفي قسم الحوارات يحاور منسّق الملفّ أنس الطريقي الباحث المصريّ د.هاني نسيرة صاحب كتاب “متاهة الحاكميّة: أخطاء الجهاديّين في فهم ابن تيميّة”.
وهنا نتوقف عند جانب من معالجة د.علي بن مبارك في بحثه المعنون “التباين والتماثل بين دار الحرب ودار الإسلام في الفكر الجهادي المعاصر” حيث تابع التحوّل التاريخي لمدلول مفهوم دار الحرب ودار السلم بين الماضي والحاضر، كاشفاً الخلفيات الفكرية والعقديّة التي وجّهته نحو المدلول العنيف الرّاهن. ولعلّ هذه الخلفيات تتركّز عنده في أربعة معايير وجهت مدلول المفهوم في محطاته التاريخية الكبرى؛ فمن معيار الأمن، إلى معيار غلبة حكم الشرع، إلى معيار الفرقة الناجية، إلى معيار الطائفة المنصورة، تحوّل المفهوم من تجريد معبّر عن مطلب السلم إلى مبرّر لتقاتل الجهاديين أنفسهم فيما بينهم.
رأى بن مبارك أن الأدبيّات الجهاديّة استفادت من توتّر العلاقة بين الجماعات الدينيّة والمذهبيّة في العصر الحديث، فعلاقة الغرب توترت مع الشرق منذ عقود من الزمن، وزادت ثورات الربيع العربي من حدّة الصراع الطائفي؛ إذ أخذت الاضطرابات السياسيّة في اليمن وسورية والعراق بُعداً طائفيّاً مذهبيّاً، واحتدّ الصراع السنّي الشيعي، واتخذ له عدّة وجوه، وظهرت عدّة تيّارات إسلاميّة، بعضها سلمي ديمقراطي، وبعضها جهاديّ أصوليّ، وانقسمت التيّارات الإسلاميّة، ولا سيّما السلفيّة الجهاديّة منها، إلى جماعات متناحرة يختلف بعضها عن بعض، ويقاتل بعضها البعض الآخر، واتّهم كلّ طرف بقيّة الأطراف بالفسق والكفر والضلال، ومن رحم تنظيم القاعدة نشأ تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش)، فبالغ في التكفير والتقتيل، وكفّر كلّ الجماعات الجهاديّة التي لم تبايعه، وانتقد تنظيم القاعدة ورموزه، واتهمهم بالخروج عن الإسلام. وفي هذا السياق السجالي العدواني، شاع الحديث عن دار الكفر والحرب، ورسم معالم دار الإسلام، حتّى يتبيّن الصديق من العدوّ، وعرضت هذه الأدبيّات الجهاديّة كلّ ما قيل قديماً وحديثاً في هذه المسألة، فانتقت النّصوص، ووجّهتها الوجهة الإيديولوجيّة التي تريد، وأوّلت القرآن تأويلاً إيديولوجيّاً يخدم فكر الغلوّ والتشدّد.
وأكد أن الأدبيّات الجهاديّة استطاعت أن تقدّم صورة عن الإسلام جعلت منه دين عنف وكراهية، لا يراعي حرمة الناس، ولا يحافظ على حقهم في الحياة والاختلاف، وهذه الصورة نجدها اليوم تكتسح مختلف أرجاء العالم، وأصبح المسلم يثير الشبهات، وتضرّر من هذه الصورة الملايين من المسلمين، ولا سيّما ممّن يقيمون في الدول الغربيّة وأميركا، وتسبّبت هذه الآراء المتشدّدة في إحراج المسلمين، ولا سيّما علماء الدين والمفكّرين؛ إذ ناقضت ما يتمّ ترويجه من عقود من الزمن من أنّ الإسلام دين حوار وسلام، وأنّه يقرّ الاختلاف والتعدّد، ويحرّم قتل البشر دون ذنب أو جرم. فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ وكيف نفسّر اشتراك كلّ الأطياف الإسلاميّة المتشدّدة والمعتدلة في الثقافة الدينيّة ذاتها؟ ألا يحتاج منّا الأمر عملاً إصلاحيّاً ثوريّاً نغربل من خلاله الفكر الديني ونخلّصه من شوائبه؟
وأشار بن مبارك إلى قضية استباحة دم المسلم المخالف في المذهب أو الفكر أو الولاء، وقال “لم تقتصر الأدبيّات الجهاديّة على استباحة دم المخالفين في الدين والعقيدة؛ بل تجاوزت ذلك لتبيح دم كلّ مسلم خرج عن الصراط الذي حدّدته الفرقة الناجية صاحبة دار الإسلام الحقّة؛ فكلّ من سكت عن تطبيق الأحكام الوضعيّة، وقبل بالحكّام ولم يخرج عنهم، أو اشتغل عندهم وكان عوناً من أعوانهم، عُدّ كافراً مرتدّاً يجب قتله، ولا فرق في ذلك بين العسكريّ الذي يأتمر بأمر الحاكم والمدني الخاضع له والقابل بحكمه، ولذلك رأى أبو عبد الله المهاجر أنّ قتل العسكريين واجب لا نقاش فيه، لأنّهم يمثلون الكفر الارتدادي، كما أثار مسألة قتل المدنيين من غير العسكريين وجواز قتلهم؛ «إذ الإسلام لا يفرّق بين مدني وعسكري، وإنّما يفرّق بين مسلم وكافر، فالمسلم معصوم الدم أيّاً كان عمله أو محلّه، والكافر مباح الدم أيّاً كان عمله ومحلّه» ، وعدّ هذا المسلم كافراً مرتدّاً، يجري عليه ما يجري على بقيّة الكفار المخالفين.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الكراهية الطائفيّة تؤجّج نار الصراعات بين الجماعات الإسلاميّة، وتزيد من حدّة الهوّة بين المذاهب والطوائف الإسلاميّة، وهذا ما نلاحظه بجلاء، فمنذ بروز الحركات الجهاديّة، وهيمنتها على عدّة مواقع استراتيجيّة في العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا واليمن، اشتدّ الصراع المذهبي، وأخذ منحى دمويّاً، فاستُهدفت الجماعات المذهبيّة، وفُجّرت مساجدها، وقُتل علماؤها، وتصاعد خطاب التكفير واللعن في الفضائيّات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يعني أنّ الحديث عن الوحدة والتقريب والتقارب الإسلامي – الإسلامي أصبح اليوم في ظلّ هيمنة التشدد الدينيّ والخطاب الجهادي الاستئصالي مطلباً صعب التحقق، ومشروعاً مؤجّلاً، فكيف يمكن الحديث عن تواصل بين المسلمين وتعاون والحال أنّ كلّ جماعة تكفّر الآخرين وتبيح قتلهم وإبادتهم؟ وكيف يمكن أن نؤسّس لحوار إسلاميّ – إسلامي في ظلّ ثقافة بائسة تشرّع القتل وتقتل التنوّع وحريّة الاختلاف؟”.
وفي ختام الملف أوضح الطريقي أن الخطاب السلفي الجهادي احتاج لتشريع تقسيم العالم إلى دارين: دار كفر ودار إسلام، إلى تأويل النصوص القرآنيّة، وقال “لا نبالغ إذا اعتبرنا الأدبيّات الجهاديّة أدبيّات تأويليّة بامتياز، تقتلع فيها الآيات من سياقاتها الدلاليّة، وتُفسّر على أنّها دعامة للتشدّد في التعامل مع المختلف في الدين أو المذهب، وتوهمنا النصوص التي شرحناها، والتأويلات التي تعرّضنا لها، إنّ القرآن حرّض المسلمين على قتل المسالمين شيوخاً ونساء وأطفالاً، وقطع رقابهم، وحرق من تأكّد كفره، وهدم البيوت وحرق الأشجار، كما توهمنا أيضاً أنّ آي القرآن تدعونا إلى الشدّة والعنف وقتل المخالف، مهما كان موقفه من الإسلام والمسلمين، وحيثما وُجد. والغريب أنّ هذا التأويل يتنافى مع أساسيّات الدعوة إلى الدين القائمة على الموعظة والأمر بالمعروف، فهل الأصل في الإسلام دعوة الآخرين للدين أم محاربتهم وقتالهم؟ وكيف نتعامل اليوم مع من وقف إلى جانب المسلمين من أهل الغرب، ووفّر لهم الأمن والأمان الذي حرموا منه في أوطانهم؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن نعوّل اليوم على مفاهيم قديمة أوجدتها سياقات تاريخيّة مخصوصة في فهم الواقع المعاصر بتعقيداته وتحدّياته؟ وهل من المشروع اليوم أن نتحدّث عن فرقة ناجية تحتكر الدين والخلاص، والحال أنّ رحمة الله تسع كلّ الخلق والطرق إليه بعدد أنفاس الخلائق؟ وأخيراً متى سنحرّر القرآن من سطوة المتأوّلين له الباحثين من خلاله عن أقوال الرجال وتراجيديا القتال؟
ميدل إيست أون لاين