
في كل مرة نزور فيها عواصم الغرب ونمشي في شوارعها التي كانت تُقدَّم للعالم بوصفها نموذجًا للحضارة والرفاه، نجد أنفسنا أمام مشهد مختلف عما تروّجه الصور النمطية.
فالغرب الذي حكم العالم على مدى خمسة قرون وأكثر، يواجه اليوم مؤشرات تآكل داخلي ،من بنية تحتية متداعية، وخدمات عامة متراجعة، وارتفاع مقلق في تكاليف المعيشة، إلى أنانية مفرطة في تعامل الإنسان الغربي مع بقية الشعوب. هذه المظاهر ليست تفاصيل عابرة، بل إشارات عميقة على أزمة حضارية متجذّرة، قد تُمهّد لمرحلة انتقالية عنوانها أفول الغرب وصعود حضارات أخرى.
فمنذ القرن الخامس عشر، ارتبط اسم أوروبا – ثم لاحقًا الولايات المتحدة – بالسيطرة العالمية. فالتوسع الاستعماري، والثورة الصناعية، والهيمنة العسكرية، جعلت الغرب يتربع على عرش القرار الدولي. لكن هذا المجد التاريخي لم يكن مجانيًا، بل بُني على نهب ثروات أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، وتسخير البشر والموارد لخدمة آلة الغرب الاستعمارية.
اليوم، تكرّر أوروبا صورة “الشيخ العجوز” الذي يحمل ماضيًا مثقلاً بالمجد لكنه عاجز عن مواكبة الحاضر. تقارير اقتصادية أوروبية تؤكد أن نسب النمو في معظم دول الاتحاد بالكاد تتجاوز 1%، فيما ترتفع معدلات البطالة، وتتزايد الفجوة الاجتماعية. ومع موجات الهجرة غير الشرعية، التي تغض الحكومات الطرف عنها أحيانًا لحاجتها إلى الأيدي العاملة الرخيصة، نجد الغرب في معادلة معقدة: الحاجة إلى دماء جديدة في ظل تراجع ديموغرافي واضح، يقابله خوف ثقافي من “الغريب” القادم من الجنوب.
فهل يمكننا ان نسمي هذه الأمر بصراع الحضارات أم صراع المصالح؟
حين نشر صموئيل هانتغتون كتابه الشهير صدام الحضارات عام 1996، أثار عاصفة فكرية. فقد تنبّأ بأن خطوط التماس المستقبلية لن تكون سياسية أو اقتصادية بحتة، بل ثقافية وحضارية. واليوم، يبدو أن تحذيره يتحقق تدريجيًا: الشرق ينهض، والغرب يترنّح. لكن جوهر الصراع، كما تكشف الوقائع، لا ينفصل عن المصالح الاقتصادية والسيطرة على الموارد.
الصين، على سبيل المثال، تطرح نفسها كقوة بديلة عبر مشروع “الحزام والطريق”، مستثمرة في موانئ أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية، بينما تفرض الهند نفسها كقوة بشرية وصناعية صاعدة. حتى روسيا، رغم العقوبات الغربية، ما تزال لاعبًا محوريًا في الطاقة والجغرافيا السياسية. كل ذلك يضع الغرب في موقع دفاعي، وهو أمر لم يعتده منذ قرون.
أوروبا الاستعمارية هي الان المرآة المعكوسة لهذا الزمن فإذا قلبنا صفحات التاريخ، سنجد أن أوروبا الحديثة مدينة لثروات المستعمرات أكثر مما تعترف به. من الذهب الأفريقي إلى التوابل الهندية، ومن قصب السكر في الكاريبي إلى النفط في الشرق الأوسط، لم يكن ازدهار الغرب ممكنًا دون استغلال الجنوب. واليوم، ثمة انعكاس محتمل: قد يجد “الإنسان الأبيض” نفسه في وضع من يخدم حضارات صاعدة، بعد أن كان سيدًا على بقية الشعوب.
هذا التحول لن يكون سلميًا بالضرورة. فالمواجهة المقبلة ليست مسألة حدود أو جغرافيا، بل مسألة وجود وهويات.
الغرب الذي بنى تفوقه على “المركزية الأوروبية” سيجد نفسه أمام قوى حضارية جديدة تطالب بحصتها من القرار الدولي، وباسترداد ما سُلب منها تاريخيًا.
اما ملامح الأفول الغربي فهي :
- الأزمة الاقتصادية المستمرة: تقارير صندوق النقد الدولي تشير إلى أن النمو في الصين والهند يفوق بثلاثة أضعاف تقريبًا نظيره في أوروبا.
- الانقسام الداخلي: من صعود اليمين الشعبوي في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، إلى أزمة “بريكست” التي كشفت هشاشة الاتحاد الأوروبي.
- تراجع القيم الإنسانية: رغم خطاب حقوق الإنسان، تتزايد السياسات العنصرية ضد المهاجرين، ما يعكس أزمة أخلاقية في المجتمعات الغربية.
- أزمات البنية التحتية والخدمات: من أزمات النقل في لندن إلى تراجع النظام الصحي في الولايات المتحدة، تبدو “النماذج الغربية” أقل بريقًا مما كانت عليه.
الشرق قادم…
في المقابل، تتهيأ قوى كبرى لصياغة ملامح النظام العالمي الجديد.
- الصين: تقدم نفسها كبديل اقتصادي واستثماري عالمي، وتبني نفوذًا استراتيجيًا بعيد المدى.
- الهند: بعقولها الشابة وسوقها الداخلي الضخم، تتحول إلى مختبر التكنولوجيا والابتكار.
- روسيا: تعيد تشكيل موازين القوى عبر الطاقة والتحالفات الجيوسياسية.
- دول الجنوب: من البرازيل إلى جنوب أفريقيا، تبحث عن موقع مستقل بعيدًا عن الوصاية الغربية.
هذه القوى لا تأتي لتملأ فراغًا فقط، بل لتفرض قواعد جديدة للعبة الدولية. وهو ما يجعل المواجهة المقبلة مسألة “تصفية حسابات” أكثر من كونها مجرد انتقال ناعم للسلطة.
في الأفق الذي يلوح أمامنا هو تباشير تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب. ولم يعد ممكنًا أن يحتكر الغرب القرار كما في السابق. ومع تراجع “الهيمنة الأميركية” واهتزاز “الحلم الأوروبي”، بات واضحًا أن موازين القوى تتغير بسرعة. هذا التحول يحمل في طياته مخاطر صدامات حادة، لكنه يفتح أيضًا إمكانات جديدة لشعوب طالما كانت في الهامش.
فالغرب الذي دسّ السمّ عبر استعمار ناعم حينًا، وخشن حينًا آخر ، يواجه اليوم طعم السم ذاته. أزمة الهوية، تآكل البنية، والقلق من القادم، كلها تجعل الحضارة الغربية في لحظة انعطاف حاسمة. ومع اقتراب ربع القرن المقبل، قد نشهد نهاية مرحلة تاريخية كاملة، وبداية أخرى يُعاد فيها توزيع الأدوار.
لكن يبقى السؤال: هل سيكون هذا الانتقال سلميًا عبر التفاهم والشراكة، أم دمويًا عبر صدام الحضارات كما حذر هانتغتون؟
الجواب لا يزال معلقًا في ميزان القوى، لكنه حتمًا لن يتأخر كثيرًا.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة