«داعش» وأميركا أو حقائب السفر

احتمالات النجاة تتضاءل. العدو على الأبواب وداخل الغرف. عدوى الحرب السورية بلغت العراق فأطاحته، ووصلت إلى كردستان فكاد يقع، أما لبنان، فهو على رصيف الانتظار، يشهد حروباً صغيرة، وأحقاداً كبيرة، ولا شيء يمنع من أن تتحول إلى انفجار كبير، إذا قررت «داعش».

«المنقذ» لن يكون لبنانياً. لم يتقدم أحد خطوة لرأب الصدوع الكبيرة بين طوائفه ومذاهبه وتياراته وجماعاته. من هذه الصدوع المخيفة، يعبر العدو. التمرين الأول في عرسال، أثبت أن باستطاعة «داعش» و«النصرة»، اللعب بالنعرات باستفزاز غير مسبوق، وبقتل لا يشبه القتال.

أثبت «داعش» و«النصرة»، بعد اقتحام عرسال وإخضاعها لمنطق «الإمارة الإسلامية»، أنهما يملكان 99 في المئة من أوراق اللعبة. لقد جعلا لبنان، من خلال عرسال، في الأسر. «داعش» و«النصرة» لا يفاوضان، بل يفرضان. ولبنان يتحزَّر، كيف ينجو من الخضوع، وهو أمر لا مفر منه، لعجزه عن تركيب نص سياسي وموقف وطني جامع.

«داعش» و«النصرة» ما عادا خبراً أمنياً. صارا حاضرين بثقلهما ودمويتهما في تعارضات السلطة السياسية وانقسامات المجتمع اللبناني، المنقسم أساساً، على أمور كثيرة لا تحصى. من أوراق القوة لدى «داعش» و«النصرة»، قدرتهما على الذبح وطريقتهما في «منح» الحرية للأسرى والمخطوفين والإعلان بالشرائط المصورة عن مطالب مستحيلة.

«داعش» و«النصرة» حفزا اللبنانيين على اعتماد كل طائفة على ذاتها. الجيش معطل عن العمل في عرسال وسواها، لأسباب كثيرة، لا ضرورة لذكرها، فلا يتحمّل جيش فوق طاقته، وما هو محضّر له، ليس بوزن وحجم مواجهة الإرهاب. هذا من اختصاصه، ولكنه غير مهيأ لذلك، لا هو، ولا جيوش أقوى منه، في سوريا والعراق والبشمركة، ولا جيوش دول الخليج المذعورة. نجح «داعش» و«النصرة» في إقناع اللبنانيين بأن حمايتهم غير ممكنة، إلا بما ملكت أيديهم من سلاح وما يوزع عليهم من ذخيرة.

اللبنانيون يتسلحون. من كان منهم مسلحاً من قبل ومنظماً ومدرباً، بات يحرس مناطقه ويستعد للمواجهة، ويقوم بتحصين بيئته الحاضنة، استعداداً لـ«الانفجار الكبير»… الشيعة في هذا المسار متفوقون على الآخرين. أولوية المقاومة لإسرائيل، تفوقت عليها أولوية محاربة التكفيريين. انخرطوا من زمان في المعركة، خارج لبنان، ويستعدون لها في داخل لبنان.

الشيعة الخائفون صاروا يخيفون كذلك، الشيعة يرونها حرباً عليهم مفتوحة من العراق إلى سوريا فلبنان. الشيعة في خندق واحد، ليس لممانعة، بل دفاعاً عن وجودهم، فـ«الروافض» أعداء «داعش» و«النصرة» بالوراثة، منذ «الفتنة الكبرى»، وما بعدها، من «معركة الجمل» إلى الطف وكربلاء… السنة يتسلّحون، لكن بمقدار. هم ليسوا في خندق واحد مع «داعش» و«النصرة». لقد طلّقوا هذين التنظيمين بعد «الردة» السعودية على التطرف والتكفير (وهي أساس فيه). ما عادا معارضة تستحق التأييد بسبب قتالهما للنظام في سوريا. غير أن السنّة ما زالوا في منزلة بين المنزلتين، فهم ضد «داعش» و«النصرة» في الموقف، أما في المنازلة القائمة، فمن أتباع المعتزلة، ما دام «داعش» السنة، يقاتل «داعش» الشيعة.

هذه هي الصورة، وإلا فلماذا يصرّ الخطاب السني على اعتبار «حزب الله» و«داعش» متشابهين؟ مثل هذه المعادلة، تعفي أهل السنة من الالتزام بالدفاع عن لبنان، بكل ما أوتي من قوة بما فيها قوة «حزب الله»، وإلقاء ذلك على الجيش اللبناني والقوى الأمنية والقرار 1701، مع معرفتهم الموثقة، بأن الجيش لن يتفوق على تنظيمات متوحشة، تقاتل جيوشها على جبهات عديدة، وتفوز فيها.

السني خائف من «داعش»، وينصرف إلى تحميل «حزب الله» وزر هذه الكارثة. يريد منه أن ينسحب من قتال «داعش» في سوريا… ماذا بعد؟ المسيحي خائف ولم يعد يخيف أحداً. الدرزي خائف وليس باستطاعته إخافة أحد… هذان يعالجان خوفهما بمرهم التسلح أو تحميل شرطة البلديات مهمة الحراسة. انها سياسة الأمن المذعور. هناك حديث عن حمايات طائفية لجماعات ليست من طوائفها.

لذا، فاحتمالات النجاة تتضاءل. والرهان المضمر، هو أن تعفو «داعش» عن لبنان، وتمتنع عن اجتياح بعض مناطقه. مثل هذا الرهان ينقذ لبنان من الانفجار الكبير، ويتركه مخلّعاً.

ماذا لو لم تعْفُ «داعش» عن لبنان، إذا توافرت لها ظروف عسكرية مؤاتية، وإذا شعرت بقـوة مضـافة وقررت أن تستكمل مهمة إقامة الخلافة، وتعمـيم الإمارات والولايات على المناـطق التي تجتاحها وتستأصل فيها كل من لا يشبهها أو من لا يبايعها؟

لبنان يغري «داعش»، فهو جزء من بلاد الشام، وشبح «الخلافة» الأسود يشمله. ثم انه يشبه العراق في خلافاته وصراعاته وجماعاته المذهبية، ويتشبه بسوريا كذلك انه أرض صالحة لآثام «داعش» التي تستنبت العنف والذبح والإبادة.

ماذا لو… الجيش سيخوض معارك نتائجها معروفة، بكل حزن وأسف. السنّة سيفوتهم القطار، ويتعرضون لخيار المبايعة أو… المسيحيون والدروز سيعتصمون في مناطقهم، بما تيسّر لهم من حماية ذاتية هشة، وتحالفات ميدانية تفرضها طبيعة المعارك. وحده «حزب الله» وبيئته سيتصديان لهجمة «داعش»، كما جاء في خطاب السيد حسن نصر الله الأخير: «هنا ولدنا، هنا نشأنا، هنا نقاتل وهنا نموت». إنه قتال لا نهاية له، سيتحول إلى حرب أهلية داخلية، شبيهة بحروب العراق وسوريا وهلم نحراً.

احتمالات النجاة تتضاءل إلا إذا:

أولا: أقدم اللبنانيون على المستحيل، وتجرأوا على التضحية بكل ما لا يؤمّن الوحدة الوطنية، قاعدة القرار السياسي الذي يتألب حوله الشعب، دعماً وقتالاً إلى جانب قواته المسلحة. ولو استدعى ذلك استدعاء الاحتياط والتجنيد الإلزامي، وطلب السلاح من أي جهة مانحة.

ثانياً: نجحت الولايات المتحدة الأميركية والحلف الذي تسعى لإقامته في وقف زحف «داعش» وتحجيم قواته في العراق وسوريا. ما يجعل احتمالات اجتياح «داعش» للبنان، كارثة على هذا التنظيم… حتى الآن، أميركا وحدها في الجو، أما في الميدان، فلا أحد تأهل لقتال «داعش» عن جد.

في غياب هذين الاحتمالين، يصير التفكير بحقائب السفر مشروعاً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى