دراسات التابع: تقديس الضحيّة على مذبح الغرب
عن «صفحة سبعة للنشر والتوزيع»، يصدر قريباً كتاب «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟» للمفكّرة غاياتري سبيفاك. الكتاب كان في الأساس بحثاً قدمته المنظّرة والباحثة الهندية في مؤتمر «الماركسية وتفسير الثقافة» الذي عُقد عام 1983، ثم نُشر ككتاب عام 1988 بعنوانه المُتعارف عليه اليوم: «هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟». على مدى عقدين، نوقش هذا البحث، وحُلّل في عشرات من الدراسات، والمناظرات، والمؤتمرات، فارتبطت «دراسات التابع» به، بحيث أثير جدل حول الهويات الثقافية، ومفهوم التبعية الخارجية «الاستعمارية» والتبعيات الداخلية الطبقية، والجنسوية. لذا مِن المُهم أن نُلقي نظرة نقدية على فكر «دراسات التابع» التي تعد سبيفاك أحد أهم أعمدتها. بدأتْ «دراسات التابع»، ككتابات في التاريخ والمجتمع الهنديين عام 1982 على هيئة سلسلة من التدخّلات في بعض النقاشات المتعلقة بكتابة التاريخ الهندي الحديث وكان مُلهمها راناجيت جحا (1923)، المتخصّص في تاريخ الهند الذي كان يدرّس حينئذ في «جامعة سَسِكْس». تألّفت هيئة تحرير «دراسات التابع» ـــ حتى عام 1988 الذي تقاعد فيه جحا من الفريق ــــ من جحا وثمانية باحثين شباب مقيمين في الهند والمملكة المتحدة وأستراليا. وبات للسلسلة الآن حضور عالميّ يتخطّى الهند أو جنوب آسيا كنطاقٍ للتخصص الأكاديمي. وصار تعبير «دراسات التابع» الذي سبق أن كان اسم سلسلة من المنشورات تتناول التاريخ الهندي، تسميةً عامةً لحقل من الدراسات غالباً ما يُنظر إليه على أنه وثيق الصلة بما بعد الكولونيالية.
تُعرِّف «دراسات التابع» نفسها كونها مضادّة لرواية التحديث السياسي والاقتصادي، إذ تشير الرواية الأخيرة إلى كفاح البورجوازية ضد الإقطاع والنظام الملكي، وقد وحّدت العمال والفلاحين والجماعات الأخرى بتصوير مصالحها الخاصة على أنها مصالح عالمية. وقادت ثورة اقتصادية لإلغاء الأنظمة الإقطاعية وأطلقت ثورة سياسية لسيادة القانون والحقوق الديمقراطية. ونتيجة لذلك، كانت قوتها مهيمنة، وحظيت بقبول واسع. وفقاً لهذه الرواية، مع انتشار رأس المال إلى أجزاء أخرى من العالم، فإنه سيحدث تغييرات سياسية واقتصادية مماثلة، ويزيل العلاقات الاقتصادية السابقة للرأسمالية ويجلب المؤسسات السياسية الغربية إلى الديمقراطية وحقوق الفرد والعلمانية.
ترفض «دراسات التابع» هذه الرواية، وتؤكد أن العالم الاستعماري مختلف اختلافاً جوهرياً، حيث فشلت البورجوازية الاستعمارية في تحقيق الهيمنة، ما أدى إلى اختلافات جوهرية في علاقات القوة وفي علم النفس السياسي. وتستند «دراسات التابع» إلى ستّ فرضيات. الفرضية الأولى، تُحقق البورجوازية في ظل الاستعمار السلطة بدون هيمنة، وقد فشلت في توحيد الفلاحين والعمال من خلال تمثيل المصالح البورجوازية كمصالح عالمية تحكم بالقسر، بدلاً من خلق ثقافة سياسية عالمية. الفرضية الثانية، فشلت الرأسمالية في إحداث التحولات الاقتصادية والسياسية التي جرت في أوروبا. وبدلاً من ذلك، تركت العديد من المؤسسات الإقطاعية سليمةً. ويرتبط استمرار هذه المؤسسات الإقطاعية بالفرضية الثالثة: أنّ القوة في العالم الاستعماري لا ترتبط بالعلاقات الاقتصادية، ولكنها تشمل أشكال ما قبل الرأسمالية للسيطرة الاجتماعية. الفرضية الرابعة هي أن فشل البورجوازية في ضمّ الفلاحين والعمال، يؤدي إلى ظهور ثقافات متميزة وشعبية (تابعة) تستند سياستها إلى مصالح عرقية أو مجتمعية أو دينية بدلاً من المصالح الفردية أو الطبقية. الفرضية الخامسة، دمجت مشاريع بناء الأمة للزعماء الوطنيين وأيديولوجية الاستعمار الأوروبي، وبذلك أعادت إنتاج الهيمنة الغربية. والفرضية السادسة أن النظرية الاجتماعية ذات الأصول الغربية هي أوروبية المركز، وتفتقر إلى الفئات والأدوات المناسبة لتحليل العالم الاستعماري، إذ يعتمد وعي الفلاح وفاعليته على مفاهيم المجتمع والدين والشرف، بدلاً من المصالح الفردية والعقلانية. وعلاوة على ذلك، فإن نظريات التنوير مذنبة بـ «التاريخانية» التي يتبع فيها التقدم مساراً موحّداً يفشل في الاعتراف بالطبيعة المجزأة للعالم الاستعماري. تشير هذه الأطروحات إلى وجود اختلافات جوهرية في رأس المال والقوة والفاعلية بين المجتمعات الغربية وغير الغربية والتي قد تتطلب أدوات نظرية جديدة.
هذه الافتراضات الستة الحاضرة غالباً في «دراسة التابع» تسيء فهم الرأسمالية والتاريخ الأوروبي وعلم النفس البشري. وتعرّف «دراسات التابع» نفسها كمقابل للنسخة الأسطورية للتاريخ الأوروبي. لم تبشر البورجوازية الأوروبية بالديمقراطية الليبرالية، بل سعت إلى الحد من حقوق العمال والفلاحين، بالتعاون مع الطبقة الأرستقراطية. وجاء التقدم السياسي على فترات متقطعة نتيجة نضال العمّال من الأسفل. وبعيداً عن الاتحاد في دول قومية موحّدة ومتجانسة، ظلت أوروبا مجزأة بحيث استمرت أشكال الهيمنة السابقة للرأسمالية.
لم تكن الهند عكس نظيرتها الأوروبية، فأفضل تفسير لاختيارات القادة الهنود لتحديث الاقتصاد ليس الأيديولوجيا، بل مشاركة البلاد في الاقتصاد العالمي ومطالب المواطنين بمستوى معيشي أعلى. البشر في جميع أنحاء العالم مدفوعون بمصالحهم الفردية، والنضال من أجل الحقوق السياسية يعتمد على الاحتياجات الإنسانية العالمية. لذا، وجد شاكرابارتي ديبيش في كتابه «إعادة التفكير بتاريخ الطبقة العاملة: البنغال 1890-1994» أنّ قادة الفلاحين يكرسون طاقة كبيرة لبناء التحالفات، وهو أمر لن يكون ضرورياً إذا كان الفلاحون مدفوعين أساساً بالروابط المجتمعية، وكما وجد أنّ الفلاحين يرفضون كثيراً التعاون بسبب المصالح الفردية. علاوة على ذلك، يستند اتهام دراسات التابع بـ «التاريخانية» إلى الحتمية الاقتصادية الخام التي يتطلب فيها نجاح الرأسمالية إخضاع جميع المؤسسات لمنطقها. يُظهر شاكرابارتي بشكل مقنع أنّ التنوع غالباً ما يخدم أو يكون محايداً تجاه إعادة إنتاج رأس المال. وكان أشد انتقاداته أن دراسات التابع تصرّ على الاختلاف والتشرذم لتكرر جوهرية استشراق المستعمرين الأوروبيين. يشير شاكرابارتي إلى أن معظم التعميمات التي تظهر في خطاب المفكرين ما بعد الكولونياليين في الهند، قد تبدو جديدة في التأريخ الهندي لكنها ليست بالاكتشافات إذا ما نُظِرَ إليها من منظورات أوسع. الكتابة (الكتابات) التاريخية التي يقدّمها مؤرّخو دراسات التابع تمثل تطبيقاً على التأريخ الهندي لاتجاهاتٍ في كتابة التاريخ، كانت واسعة الانتشار في سبعينيات القرن العشرين بفضل مؤرّخين اجتماعيين مثل إ. ب. طومسن وإريك هوبسباوم وغيرهما كثير من المؤرّخين الماركسيين البريطانيين. هذه القراءات أدت إلى مزج دراسات التابع مع نظرية ما بعد الاستعمار، بحيث أصبحت نظرية ما بعد الاستعمار وشبح رأس المال رمزاً للنقاشات الأكبر حول المنهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، واندمجت مع دراسات التابع، كون الأخيرة تقدم ادّعاءات نظرية ومؤثرة تخضع لتحدي مفاهيمي وتجريبي. وما سبق حول ما بعد الاستعمار ورأس المال أكد عليه فيفك تشيبر في كتابه «نظرية ما بعد الاستعمار وشبح رأسمال»، إذ وجد أنّ قدراً كبيراً من الكتابة ما بعد الاستعمارية هو تحليل أدبي غامض متأثر بنظرية ما بعد البنيوية والمصطلحات التي لا تقدم أجندة بحثية واضحة.
وتدور نظرية ما بعد الاستعمار ودراسات التابع حول منهجية في العلوم الاجتماعية تعارض مع ما تسعى إليه الماركسية مِن «التماسك والنظامية»، بل تنحو دراسات التابع إلى الانتقائية في الطرح، بحيث تُبقي على أحد أهم عوامل جذبها بأنها تعدنا بنقلنا إلى ما وراء المركزية الأوروبية. لكن كما يوضح فيفك تشيبر، لا ينبغي القيام بذلك من خلال إظهار الاختلافات بين الشرق والغرب فقط، ولكن من خلال إظهار «أن كلا القسمين من الكرة الأرضية يخضعان للقوى الأساسية نفسها، وبالتالي هما جزء من التاريخ الأساسي نفسه». يلفت تشيبر إلى قوتين أساسيتين هما «المنطق العام لرأس المال» و«المصلحة العامة للفاعلين الاجتماعيين»، وهذا ما يتم تجاهله غالباً في دراسات التابع.
في الاندفاع المفاجئ لدراسات التابع، تم تجاهل التناقض بين الماركسية وما بعد الحداثة، وتم الارتكان إلى قوة الدفع المعرفي للمدافعين عن نظرية التحديث والنيوليبراليين (اليسار الجديد مستقبلاً) داخل الأوساط الجامعية في فترة السبعينيات والثمانينيات في الغرب رغم ضآلة هذه القوى الأساسية والتنوع الذي تسمح به.
بالتأكيد، قد يبدو أن أدوات العلوم الاجتماعية التي تم تطويرها إلى حد كبير في العالم الغربي كدراسات التابع، كافية لفهم جنوب العالم بوصفه ضحية. لكن في الحقيقة، لم يطوّر أحد مجموعة أدوات مقنعة لحلّ هذا الإشكال، ومن غير الواضح إذا ما كان سبب الأساليب التأويلية التي يفضلها بعض ما بعد الاستعمار المابعد حداثي عائداً إلى أنّها أقل تركيزاً على المركزية الأوروبية أم لا. لذا يجب أن نرفض المنظّرين للّاعقلانيّة، كما نرفض افتتان الاختلاف والتنوع، ونسعى جاهدين من أجل الوضوح النظري والأسلوبي، ونطمح إلى التفسيرات الأوسع والأكثر منطقية من الناحية التجريبية.
ومع ذلك، يبقى أثناء قراءة فكر غاياتري سبيفاك وكتابها إدراك أن التنظير حول العالم الاستعماري السابق يثير عدداً من الأسئلة: ما هو دور الهياكل الاقتصادية والأفكار في تفسير الأمور الاقتصادية والسياسية والمؤسسات الثقافية في العالم الاستعماري السابق؟ ما هي الظواهر التي تغفلها الفئات المابعد حداثية وكيف ينبغي الاعتراف بها؟ هل هناك اختلافات منهجية بين الشمال والجنوب متجذّرة في التاريخ أو في الهياكل الاقتصادية المعولمة؟ هل هناك أوجه تشابه بين المستعمرات السابقة يجب استكشافها؟ هل النظريات العلمية الاجتماعية والفئات المعيارية في بعض الأحيان إيديولوجية (على سبيل المثال، المركزية الأوروبية) تفرض نظريات وفئات غير مشروعة عند توظيفها في سياق غير مألوف؟
صحيفة الأخبار اللبنانية