دراسة| من يحكم مصر؟! (أمير طاهري)

 

أمير طاهري

«ما الذي يريدونه في مصر؟» أثير هذا التساؤل من قبل أحد المشاركين في حلقة نقاشية لمؤسسة بحثية في لندن عن الأحداث في مصر، عقدت قبل أيام.

كان الإحباط الواضح هو القاسم المشترك لدى كثير من المتحدثين الغربيين المهتمين بالشأن المصري، الذين بنوا تحليلاتهم على مدى سنوات على الافتراض بأن مصر، الدولة ذات الأغلبية السنية، كانت تتوق بشدة للحكم الإسلامي لكن ذلك لم يتحقق نتيجة الديكتاتورية العسكرية في عهد جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك. وساد اعتقاد أنهم إذا ما منحوا الفرصة فسوف تصوت الأغلبية لصالح الأحزاب الإسلامية. ورغم تأكيد الأحداث التي شهدها العامان الأخيران نوعا ما على هذا الافتراض، فإنها هزت أيضا بعض أسسه، فالثورة التي أسقطت حسني مبارك لم يبدأها الإسلاميون. ورغم عدم وجود معلومات موثقة بشأن الأحداث التي جرت خلف الستار، والتي أجبرت الرئيس مبارك، على الانحناء، لكن المؤكد هو أن الإسلاميين لم يلعبوا دورا في ذلك.
خلال الانتخابات التي تلت إسقاط مبارك، كان الحزب الأضخم الوحيد هم أولئك الذين امتنعوا عن التصويت. وبلغت حصة الإسلاميين مجتمعة ربع ما يقدر بنحو 51 مليون شخص ممن يحق لهم التصويت. وللإجابة على السؤال «ما الذي يريدونه في مصر؟» ربما يكون من المهم فهم من هم المصريون أولا.
مصر ليست واحدة من المائة وخمسين دولة أو الدول التي تكونت حديثا والتي أثرت الحياة الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. ولا هي أيضا كالدول الأوروبية التي نشأت حديثا مثل ألمانيا وإيطاليا، التي برزت من أنقاض الإمبراطوريات. فالمصطلحات الغربية التي تعنيها كلمة إمبراطورية ودولة لا تفسر بشكل كامل مصر. وقد حاول المفكرون المصريون على مدى أكثر من 100 عام، اكتشاف أو كما يقولون إعادة اكتشاف الهوية العميقة لمصر.
خصص صبحي وحيدة، المؤرخ المعروف، كتابا وحيدا لهذا السؤال «في أصول المسألة المصرية»، كحال الكثير من الكتاب الآخرين مثل إبراهيم المازني مؤلف الرواية المؤثرة «إبراهيم الكاتب». كان الهدف تأطير ظاهرة معقدة وتتطور بشكل مستمر. وقد حاول بعض الكتاب تجاوز واقع وجودي في مصر بالوصول إلى جوهرها. ولم يكن البحث عن «جوهر المسألة المصرية» عملية فكرية مجردة، فقد أثرت نتائجها السياسية والاجتماعية في حياة كل شخص في البلاد تقريبا.
ورغم رومانسية المصطلحات الثقافية، فقد أسهم السعي وراء الجوهر المصري في كل الحالات تقريبا، في بلورة مواقف سياسية رجعية إلى حد كبير. فاعتقد أحد الكتاب أن جوهر الجوهر هو عودة مصر إلى ماض خيالي. وزعم عشاق الدولة الفرعونية أن مصر نتاج حكام وأفراد في الأزمنة الغابرة. وأن كل ما جرى بعد ذلك يجب أن ينظر إليه على أنه سلسلة من الغزوات الأجنبية التي يجب أن يتم الكشف عنها وحذفها. ويعكس توفيق الحكيم واحدا من الكتاب المصريين الأكثر شهرة في القرن العشرين وجهة النظر تلك.

* ماهية مصر

إذن، ما هي مصر؟ هل هي فرعونية أم يونانية أم فارسية أم رومانية أم أفريقية أم بحر متوسطية أم إسلامية أم عربية؟

الإجابة أن مصر هي كل هؤلاء بكل متغيراتها الداخلية الكثيرة. فقد أخذت مصر من كل هؤلاء، وخبرتهم لكنها هي التي أثرت فيهم في نهاية المطاف. فعندما برز الفراعنة كنخبة حاكمة منظمة لم تكن مصر صفحة بيضاء يمكنهم العبث بها كما يشاءون. وعوضا عن أن يكونوا بناة مصر كانوا أحد مواطنيها. الحقيقة أن مصر أجرت تبادلات ثقافية وتجارية متعددة الأوجه مع الحضارة اليونانية. لكن حتى المملكة البطلمية التي استمرت أكثر من قرنين من الزمان كانت «يونانية» في جانب منها. فالنخبة الحاكمة الجديدة كانت في معظمها من أصل مقدوني، وبالتالي على هامش اليونانية. وسرعان ما وصفوا أنفسهم بالفراعنة واعتنقوا التقاليد المصرية الأصلية.
وفي ظل الحكم الروماني، حافظت مصر أيضا على مكانتها الخاصة، ولم تتحول إلى مقاطعة رومانية، وتضم تصنيفها على أنها مجال خاص بالإمبراطور. وحتى عندما أعلن الإمبراطور كاراكالا أن على جميع المصريين أن يكونوا مواطنين رومانيين، لم يتغير الكثير في واقع الأمر عدا الزيادة في الضرائب التي فرضت على المصريين.
وهناك الافتراض بأن الجوهر الإسلامي الحصري لمصر أكثر تعقيدا. فتشير أغلب المصادر إلى تحول غالبية المصريين إلى الإسلام بعد قرنين من الفتح الإسلامي لمصر، لكن الإسلام تطور في مصر على محاور مختلفة. فالإسلام في العصر الفاطمي لم يكن هو ذاته في العصر الأموي. ففي العصر الفاطمي تبنت مصر مذهبا دينيا يحمل الهرطقة في بعض سماته. والنهج الذي برز بعد قرون من التطور كان إسلاما مصريا جعل من مصر واحدة من الدول ذات الأغلبية المسلمة القليلة التي لا تشهد انقسامات طائفية. وللمسيحية في مصر لديها تجربة مماثلة بلغت ذروتها في توطيد الكنيسة القبطية.
ورغم عدم قبول كل من المسيحية والإسلام فكرة الدولة في حالة مصر، نتيجة لطموحاتهما العالمية، كان على كل منهما التوافق معها رغم وجود درجة من التحفظ.
يتركز الإسلام المصري في الأزهر، المؤسسة المصرية العريقة، لكنه لا يختلف عن أي سلطة خارج الدولة. وبالمثل، تجنبت الكنيسة القبطية محاولات جرها في شبكة عالمية باسم الوحدة المسيحية. ولديها بنيانها القيادي الخاص، وطقوسها وحتى لغتها ولا تملك سلطة دينية خارج مصر.
محاولات خفض الهوية المصرية المعقدة إلى مكون واحد فقط من مكوناتها الكثيرة دائما ما كان يؤدي إلى توتر وصراع وعنف ينتهي بالفشل. وهو ما ينطبق بشكل خاص على دعاة القومية والإسلاميين.
خلافا للاعتقاد السائد لم تبدأ دعوة القومية العربية بعبد الناصر، بل ظهرت على المسرح الثقافي في العشرينات عندما استلهم بعض المفكرين من ارتقاء موسوليني للسلطة في إيطاليا، وبدأوا الحديث عن إحياء الإمبراطورية العربية الأسطورية التي تقودها مصر. وكان هدفهم الأساسي من هذا الحشد الرابطة الشرقية التي كان أبرز رموزها منصور فهمي والدسوقي أباظة وصالح جودت.
وفي عام 1938 تأسست رابطة الوحدة العربية على يد الكاتب محمود علي علوبة بكتابه «في السياسة المصرية» كنوع من التصريح الرسمي الذي طور فكرة العروبة. وحقق اتحاد الطلبة المعروف باسم رابطة العروبة الذي يقوده أسعد داغر بعض النفوذ في الثلاثينات. وانتشرت فكرة العروبة من خلال أعمال عبد الرحمن الكواكبي، الذي ولد في محافظة حلب في العصر العثماني.

* نهضة الوحدة الإسلامية

ظهرت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية على يد الإخوان المسلمين. وكانت الوفود المصرية حاضرة في مؤتمر الوحدة الإسلامية في يوفا، بتساريست روسيا عام 1856. ومن بين المدافعين الآخرين عن الوحدة الإسلامية الناشط السياسي والديني الإيراني جمال الدين أسدآبادي إلياس (المعروف باسم جمال الدين الأفغاني)، الذي قضى تسع سنوات في مصر. وتبنى هو وتلامذته وبخاصة الشيخ محمد عبده فكرة تجديد الخطاب الديني والذي وجد بالفعل أنصارا له بين المسلمين في الهند والإمبراطورية الروسية وإيران (ونأى الأفغاني فيما بعد بنفسه عن الوحدة الإسلامية ودعا إلى بناء دول على النمط الغربي في البلاد الإسلامية).
وفي تسعينات القرن التاسع عشر صدرت صحيفة «المؤيد» ورأس تحريرها الشيخ علي يوسف وتلاه مصطفى كامل، وصحيفته «اللواء» التي روجت لأفكار الوحدة الإسلامية. وكان خديويو مصر، الذين يحكمونها في ظل الحكم العثماني، يشجعون الوحدة الإسلامية بين الحين والآخر لتبرير بناء الإمبراطورية مثل ضم النوبة والسودان وغزو الحجاز وسوريا.
وقد راودت الملك فؤاد فكرة تنصيب نفسه خليفة للمسلمين، ليسد الهوة التي تركها سقوط الخلافة في إسطنبول عام 1928. وانقسم مؤيدو الوحدة الإسلامية بشأن الحاجة إلى الإصلاح، ففي الوقت الذي حاول فيه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الترويج للإسلام البراغماتي، دعا محمد رشيد رضا في تفسيره المنار إلى استعادة الحقبة الذهبية لعصر الإسلام الأول، وأكد على أن الإصلاح سيتطلب حتما التخلي عن بعض مبادئ الشريعة والعقيدة الإسلامية، وهو ما من شأنه أن يعرض الإيمان ككل للخطر. لكن مؤيدي الوحدة الإسلامية فشلوا في إقناع غالبية المصريين، وفي بداية القرن العشرين نفدت طاقتهم وتبددت أحلامهم في حدوث ذلك.
وفي عام 1927 حاولت حركة معروفة باسم جمعية الشبان المسلمين التي أسسها عبد الحميد سعيد إحياء القيم المنسية، لكنه فشل. وانتقلت المهمة إلى حركة أخرى، هي حركة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام 1928. وكانت تلك لحظة مواتية لإعادة تدشين فكرة الوحدة الإسلامية لمواجهة القومية الوليدة والحركة العمالية الناشئة المستوحاة من الآيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية.
كان «الإخوان» أول حركة إسلامية مصرية تحقق نجاحا في بناء شبكة دولية. وكان لها فروع في عدة دول عربية. وكان لها وجود بين المسلمين الهنود تحت الحكم البريطاني عرف باسم الجمعية الإسلامية. حتى أنها أسست فرعا لها في إيران الشيعية عرفت باسم فدائي الإسلام بقيادة مجتبى ميرلوهي. وكان روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران فيما بعد، أحد أعضائها. وقد انجذب مرشد إيران الحالي، علي خامنئي أيضا إلى آيديولوجية الإخوان وتم ترجمة كتابين عن منظر الإخوان سيد قطب. وقد نعى خامنئي سيد قطب في يونيو (حزيران) الماضي في خطاب ألقاه في طهران، باعتباره واحدا من أكبر ثلاثة «مفكرين إسلاميين» في كل العصور – الاثنان الآخران هما الخميني والصحافي الباكستاني أبو الأعلى المودودي.
حاول الإخوان أيضا السيطرة على الجيش من خلال اختراقه. وأنشأت الجماعة خلية عسكرية سرية يقودها العقيد عبد المنعم عبد الرؤوف. وخططت الخلية لاغتيال جمال عبد الناصر عام 1954.
في البداية يعاني «الإخوان» من تناقضات آيديولوجية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، تسببت في جزء منها على الأقل، في النكسة الاستراتيجية التي عانت منها. فلا يمكنها أن تتخلى عن مصريتها إلى الدرجة المطلوبة لتحويلها إلى حركة آيديولوجية عابرة للحدود. ومن ثم يتقاسم الإخوان ورطة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، وهي حركة فكرية ذات طموحات آيديولوجية عالمية.
وكانت الوحدة الإسلامية إحدى نقطتي ضعف الإخوان المسلمين، والأخرى هي لجوء الجماعة إلى العنف والإرهاب.
لفترة من الوقت، انجذبت جماعة الإخوان إلى الحركات القومية الأوروبية الراديكالية مثل الفاشية والنازية. ولم يخف البنا إعجابه بموسوليني وهتلر، على الرغم معاداة النازية والفاشية للدين. وحضر وفد من الإخوان مؤتمر نورمبرغ عام 1936 الذي عرض فيه هتلر أهدافه الآيديولوجية. رغم كون مصر المركز الأكثر نشاطا للإسلام السياسي في نسخه الكثيرة، فإنها أنتجت بعض المفكرين الذين انتقدوا الإسلام السياسي من قبل علماء مثل محمد سعيد العشماوي وحسين أحمد أمين. وخلال معارضة الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، روج بعض المثقفين الأفكار القومية والعلمانية. فكرة القومية المصرية كانت في مرحلة التشكل منذ القرن التاسع عشر. ووجدت تعبيرا منحرفا في تمرد أحمد عرابي باشا في عام 1879 و1882. ورغم ذلك، تمزقت الحركة نتيجة لتناقضاتها الداخلية، بما في ذلك اعتبار عرابي كما لو كان «المهدي» ذا طموحات ضمنية مؤيدة للوحدة الإسلامية.
شكل أحمد لطفي السيد ومجموعة مجلة «الجريدة» حاول فيها تعريف الهوية المصرية بصورة تتخطى الإسلام – أو العروبة. وكتب لطفي السيد «كانت مصر جزءا من المحيط الثقافي اليوناني اليونانية والرومانية والسياسية لأكثر من 1000 سنة. كيف يمكنها تجاهل هذا الجزء من تراثها؟».
وضعت تلك كبديل لمفاهيم الأمة الإسلامية أو العربية، ووجدت فكرة المصرية دعاة بارزين، ولا سيما عبد العزيز فهمي وطه حسين وحسين هيكل وحسن الزيات. وطور عباس محمود العقاد الفكرة في سيرة سعد زغلول، كبطل للحركة من أجل الاستقلال ضد البريطانيين. كانت القومية المصرية تتداخل مع العلمانية في بعض الأحيان. كما أنشئت أيضا المحافل الماسونية عام 1880. ومن المثير للاهتمام، انضمام بعض الشخصيات القومية الإسلامية مثل جمال الدين الأفغاني وعبده إلى جمعيات سرية كما فعل الكاتب عبد السلام الموالحي. وأصبحت شخصيات عسكرية مثل محمد سامي البارودي وعبد اللطيف سليم بك أيضا من الماسونيين الأحرار.
إلى جانب أصوات الحركة الوطنية الناشئة الداعمة للتغريب. لقيت هذه الفكرة ترحيبا من الخديو إسماعيل الذي رأى مصر جزءا من «الفضاء الأوروبي»، إلا أن ذلك أدى إلى إفلاس الدولة والهيمنة البريطانية عليها. كما وجدت القومية المصرية مدافعين متحمسين مثل سلامة موسى وإسماعيل مظهر وحسين فوزي. وبدأ توفيق الحكيم يرتدي قبعة على الطريقة الفرنسية في تناقض مع الطربوش الذي يرمز للنخبة الحاكمة.
ورغم تأثيرها على الحركات الإسلامية المصرية اجتذبت الفاشية والنازية البعض على هامش القومية المصرية. فأنشأت حركة مصر الفتاة ميليشيا تعرف باسم القمصان الخضراء والتي تشكلت على غرار الحركة الألمانية إس إس. وطالب أحمد حسين برفض الحكم الدستوري والانتخابات ودافعوا عن إنشاء الإمبراطورية. وفي عام 1940 غيرت القمصان الخضراء من سياستها وأعادت تسمية نفسها حزب مصر.

وألهمت الحركة الوطنية ظهور أحزاب على اليسار. وأنشئ الحزب الديمقراطي المصري عام 1919. بعد عام من ذلك ظهر الحزب الاشتراكي إلى الوجود في الإسكندرية وتأسس الحزب الاشتراكي عام 1922 بعد انقسام الاشتراكيين. وأبرز اتحاد العمال المصريين، الذي هيمن على اليسار، عضلاته بسلسلة من الإضرابات عام 1924.

* قبل الـ«فيس بوك»

لم تبدأ الحركة المؤيدة للديمقراطية في مصر مع جيل موقعي التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«تويتر» مثلما يظن البعض. فمن ثمانينات القرن التاسع عشر، أيد شبلي شميل وفرح أنطون، رغم فشلهما في القضاء على تقليد السلطة الأبوية بالكامل، إرادة الشعب بوصفها المصدر الرئيسي للشرعية السياسية. حتى أن أحمد لطفي وحزب الشعب التابع له ذهبا إلى مدى أبعد، مثلما فعل سلام يوسف. زعم علي يوسف وحزبه الدستوري أن «الإرث اليوناني الروماني» لمصر ينبغي أن يدفع بها نحو الحكم الديمقراطي.
شكلت مصر أول برلماناتها في عام 1866. قبل 10 سنوات من العثمانيين و40 عاما من الإيرانيين، ومن ثم أصبحت أول دولة ذات أغلبية مسلمة تملك هيئة تشريعية. وكان السعي وراء المصرية الصميمة بمثابة مصدر إلهام لنهضة ثقافية. بدأ هذا بترجمة ما يزيد على 400 نص بارز من الأدب الغربي، وخصوصا من اللغة الفرنسية. أطلق مفهوم مساواة المرأة قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة» في عام 1899. وأشار في كتابه إلى أنه لا ينبغي استغلال الحجاب كذريعة لقمع النساء.
حظي مؤيدو حقوق المرأة بدعم ضمني من بعض الخديوات. في عام 1874. أنشأت مصر أول مدارس حكومية لتعليم الفتيات في العالم الإسلامي، لتسبق إيران بنصف قرن.
قبل وقت طويل من ظهور موقع الـ«فيس بوك» والهواتف الجوالة، حاول المصريون توظيف أحدث الوسائل التكنولوجية في المطالبة بالحرية واحترام حقوق الإنسان. أنشئت أول صحيفة مطبوعة في العالم الإسلامي في الإسكندرية في عام 1805، لتتقدم على العثمانيين والإيرانيين بنحو 40 عاما. كذلك، كان المصريون أول من ينشرون الصحف في العالم الإسلامي بشكل دوري. بدأ نشر جريدة «الوقائع المصرية» في عام 1827. قبل 10 أعوام من ظهور الصحف في الإمبراطورية العثمانية وإيران.
وفي فترة قصيرة على نحو مدهش من الناحية الثقافية، شكل المصريون ثقافة مميزة ارتكزت على التراث المتشعب. جمع محمد مرتضى الزبيدي أول قاموس حديث باللغة العربية نشر في عام 1870. وكان حسن البدري الحجازي وإسماعيل زهوري، اللذان تجرآ على نقد الدين، رائدين لإحياء الشعر العربي الكلاسيكي. أثرى تراثهما أناسا على شاكلة حافظ إبراهيم وإسماعيل صبري. بدأ الابتعاد عن الشعر التقليدي بالأعمال الكلاسيكية الحديثة لأحمد شوقي وسامي البارودي. وفي عام 1910. نشر محمد حسين هيكل رواية «زينب»، وهي أول رواية حديثة باللغة العربية. وفي الفترة ما بين الثلاثينات والثمانينات من القرن التاسع عشر، والتي يعدها البعض «عصرا ذهبيا»، ابتكر المصريون موسيقى متفردة خاصة بهم، مستوحاة من التقاليد الهندية والفارسية والعثمانية والأوروبية من دون محاكاة ساذجة. أحيا محمود حسن إسماعيل الموسيقى الشعبية في مصر وأثراها. وأصبحت الأوبرا والمسرح، ولاحقا السينما والفنون، جزءا من الحياة المصرية، على الأقل في المناطق الحضرية. طور المصريون شعرا شعبيا خاصا بهم، يعرف باسم «شعر العامية» (الشعر العامي)، فضلا عن ذلك، فقد كانت لديهم نسختهم من الكوميديا الارتجالية قبل وقت طويل من تكوين الأوروبيين كنزا ثمينا من النكات. كان يعقوب صنوع، وهو كاتب يهودي من الإسكندرية، منتجا بارزا لأعمال الفكاهة الهزلية تحت اسم الشيخ أبو نظارة، والتي كان ينتقد فيها جوانب من المجتمع المتسلط الاستبدادي. وبوصفه صديقا للأفغاني وعبده وعرابي باشا، كان أبو نظارة من أوائل المؤيدين للقومية المصرية.
يمكنك أن تخرج المصري من مصر ولكن لا يمكنك أن تخرج مصر من المصريين. ثمة عبارة مأثورة متكررة ألا وهي أن مصر لم يتزعمها حاكم مصري حتى عبد الناصر. ولكن هذا هراء. فكل هؤلاء الذين حكموا مصر، بمن فيهم المماليك، انتهى بهم الحال لأن يصبحوا مصريين. هل بإمكان أحد أن يعتبر كليوباترا تحمل أي جنسية خلاف المصرية؟ رغم أصولهم التونسية وشبكاتهم الإسلامية، كان الفاطميون سلالة مصرية أساسية. وماذا عن محمد علي باشا، المحارب الألباني المقدوني العثماني، الذين كان يجد صعوبة في تحدث اللغة العربية «بشكل صحيح»؟ بل وحتى إفلين بارينغ: «القنصل العام» والحاكم الفعلي لمصر على مدار عقدين، انتهى به الحال لأن يصبح كرومر باشا أو لورد كرومر مصر.

كان جورجي زيدان سوريا ومسيحيا. لكن هل هناك كاتب أكثر مصرية منه؟ وماذا أيضا عن كاتب مسيحي آخر، هو الصحافي فرح أنطون، أو الإخوة تقلا المسيحيون السوريون الذين أسسوا دار «الهلال» للنشر، التي كانت في تلك الفترة أكبر صرح من نوعه في المنطقة؟ كان البارودي من أصل شركسي. ولكن لم يكن أحد ليشكك في قامته كشاعر مصري عظيم. حتى أن شوقي كان شخصية أكثر تعقيدا. فقد كان كرديا ويونانيا وشركسيا بحكم المولد، وكان يمزح بقوله إنه ليس لديه ولو قطرة دم مصرية واحدة. بخلاف ذلك، كان وجوده بالكامل مصريا.
هل يستطيع أحد أن يشكك في مصرية نجم الدروز اللبناني فريد الأطرش أو قطب السينما المصرية المخرج المسيحي يوسف شاهين؟ لقد أشرنا بالفعل إلى الأفغاني الإيراني الشيعي، الذي تبناه المصريون بوصفهم واحدا منهم. غير أن أحدث منتقديه، وهو رشيد رضا، كان أيضا «أجنبيا» لكونه من أصل سوري. تشير أسماء العائلات المصرية إلى تباين نادر في الخلفيات العرقية والدينية.

* التقليد العسكري

إن خطوة الجيش لإسقاط الرئيس محمد مرسي على خلفية موجة السخط الشعبي من حكومة الإخوان ليست بظاهرة جديدة. فتقليد الانقلابات العسكرية لم يبدأ مع اللواء محمد نجيب والعقيد جمال عبد الناصر في عام 1952. من ناحية، أتى محمد علي باشا نفسه إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري. وقبل ذلك، شهدت مصر انقلابا فاشلا في فبراير (شباط) 1879. وكانت هناك محاولة انقلاب أخرى فاشلة في عام 1954 عندما تم اعتقال 250 ضابطا وتقديمهم للمحاكمة. وفي عام 1955، دبر العقيد خالد محيي الدين انقلابا لدعم نجيب الذي تمت تنحيته من قبل عبد الناصر. أخذ ناصر الرسالة وأجرى عملية تراجع تكتيكي عن التمسك بالسلطة ضده. وتم الكشف عن مؤامرة أخرى للقيام بانقلاب في عام 1968.
إن علاقة الجيش المصري بالعالم الخارجي ليست أمرا جديدا الآن بالمثل. في البداية، كان جيش الخديو مؤلف بشكل حصري من مجندين أتراك وأكراد وألبان وشركسيين. لكن كان هناك أيضا مجندون عدة من أصل يوناني وبلغاري وإيطالي. وأحيانا، ما اتسعت الشبكة بشكل أكبر. قاد جنرال بريطاني، هو صامويل بيكر باشا، الجيش المصري في حربه ضد السودان. وفي عام 1877، أصبح الجنرال الأميركي ستون رئيسا لأركان القوات المسلحة المصرية.
وخلال القرن التاسع عشر، ساهمت مئات المنظمات غير الحكومية الفرنسية والبريطانية والضباط الأجانب في تدريب وتنظيم صفوف الجيش المصري. وفي سبعينات القرن التاسع عشر، تطوع كثير من الخبراء الأميركيين في الحرب الأهلية، معظمهم من معسكر الحلفاء، للمساعدة في تدريب الجيش المصري.
لقد بعث ما يسمى «الربيع العربي» أملا في قدرة مصر على ابتكار وسيلة جديدة لتغيير الحكومات. وقد اعترى ذلك الأمل من انتكاسة ولكنه لم يمت. من الصعوبة بمكان تخيل الجيش يحاول إحكام قبضته على الحياة السياسية في الدولة.
هل ستصبح مصر جزائر أخرى؟ والإجابة بالنفي. فالمصريون ليسوا مثل الجزائريين ولديهم قدرة فريدة على المقاومة والصبر والصمود. كأرض، تعتبر مصر هبة النيل الذي ربما يعكس، من خلال تنوع مصادره، الحقيقة المصرية.
من اليسير أن نطلق على النيل نهرا. ولكنه أكبر من ذلك بكثير؛ فهو رمز لمصر. في حقيقة الأمر، النيل عبارة عن نهرين اتحدا معا أعلى مسارهما لتكوين الوادي الذي أصبح ممثلا في مصر. بل إن النيل حتى أكبر من مجرد تزاوج نهرين كبيرين. تنتشر مصادره الكثيرة عبر 11 دولة، مع وجود أكثر من 100 رافد مباشر وغير مباشر. غير أنه لم يتم فهم النيل وتفسيره بشكل كامل بعد، فبعض مصادره لم يتم اكتشافها. إنه رمز للاتحاد. وهذا هو ما كانت عليه مصر آلاف السنين. وأي شخص يحاول تقليص تلك الحقيقة المعقدة في صورة نموذج واحد مقدر له الفشل.

صحيفة الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى