درس من الحضارة العربية – الإسلاميّة: العلم ينمو بالاختلاف (أحمد مغربي)

 

أحمد مغربي

ماذا لو أردنا فتح نقاش مختلف عن العلاقة بين التخلف العلمي، بل ربما الحضاري، الذي يعيشه العرب، وبين الطريقة التي تفكر فيها الثقافة السائدة في التجربة المزدهرة للحضارة العربية – الإسلاميّة.
الأرجح أنه يصح البدء من القول إن العلم والحضارة ليسا شيئين متطابقين دوماً، لكن الفصل الكامل بينهما يبدو تعسفياً واختزالياً.
إذ رفعت الــنازية راية العــلم بــقوة شــديدة. لــيس فــقط أنها زعمت للجــنس الآري تفــــوّقاً علــمياً، لكنها جعلت من ذلك الزعم الزائــف مرتكزاً للقول بأن ذلك يعطي الجــنس الآري سبباً للهيمنة على غيره من الأعراق. ارتكز كثير من مزاعم النازية على العلم أيضاً.

كأس الـ «يوجينيا» المُرّة

في مثال لافت، يشتهر عن النازية أنها تبنت مقولات تشارلز داروين عن أحقية الأقوى في البقاء على حساب الأضعف، الذي يجب ازالته لأنه يمثل عبئاً على الحضارة.
استخدمت النازية مقولات التفوق في السمات البيولوجية، بما فيها الذكاء العلمي، مبرراً لسياسة عنصرية حملت اسم «الصفاء العرقي» واشتهرت تحت مصطلح الـ «يوجينيا» Eugenia.
وتحت مزاعم الـ «يوجينيا»، أصرّت النازية على عدم السماح بالتكاثر إلا للأفضل. وفرضت سياسة وقف التكاثر، عبر خصي الذكور وإزالة مبايض الأنثى، على أعراق اعتبرها النازيون أنها أقل، خصوصاً في ملكات العقل.
وفتح التفكير بالـ «يوجينيا» والانتقاء العنصري، باب معسكرات الابادة الجماعية في داخاو وأوشفيتز، تحت شعار التخلص من العبء الحضاري الذي تمثله أعراق أدنى عقلاً ونوعيةً، مثل اليهود والغجر والروس والسود وغيرهم. وبقية القصة معروف.
تاريخياً، مثّلت النازيّة وضعاً مشتطاً أو متوحشاً، كما درج المفكرون في الغرب على القول، في الاعلاء من شأن العلم والعقل في ميزان الحضارة. لهذا تُستخدم عبارة من نوع «عقلانية متوحشة» في الاشارة إلى تجارب من نوع النازية.
ولكن النازية ليست عزفاً منفرداً. إذ طالما بررت الدول الأوروبية استعمارها العالم، بالعبء الذي ألقاه القدر على الرجل الأبيض، الذي يتوجب عليه انقاذ أمم العالم من الجهل والتخلّف عبر… الاستعمار! لعل مقولة «العبء الحضاري للرجل الأبيض» (التي رميت أيضاً في وجه الأفارقة الأميركيين تمييزاً عنصرياً)، من أقوى مفارقات مشروع الحداثة الاوروبي، إضافة إلى مقتلتي الحربين العالميتين، والجريمة ضد الانسانية التي مثلتها مجزرة القنبلة الذرية وغيرها. وثمة نقاش مديد في الغرب عن الدلالة الحضارية لتلك الأمور. ومن المفيد استحضار ذلك النقاش لتأكيد ضرورة النظرة النقدية والمُركّبة عند التفكير بأمر العلم والبحث عن سبل التقدّم فيه.
يكفي التأمل في مســألة التقدّم العلمي من منظار تاريخي، لنعرف أنها لا تُخــتزل إلى تفاصيل، ولا تُحلّ باجــراءات وتمـــويل وما إلى ذلك. وبعد، فما الذي فعله العرب، منذ عهد محمد علي باشا إلى مدينة دبي للانـــترنت، ومروراً بأرتال الجامعات والمــعاهد ومراكز البحث والمبعوثين والموفدين وما إلى ذلك، غــير أنهم جربوا أشكالاً متعددة من هذا الحل؟

العرب ونقد النموذج اليوناني

هناك من يرى نوعاً من التعسّف في الحديث عن التخلّف الحضاري، بمعنى أنه حديث لا يخلو من عنصرية. وفي المقابل، هل نستطيع القول إن شعباً ما يمكن أن يكون غير متخلّف حضارياً، ولكنه متخلّف علمياً «فقط»؟ أم أن العلم من أشكال الاتصال مع الحضارة، إذ يمثّل التأخّر علميّاً في مجاراة الشعوب دليلاً أو مؤشراً على التخلّف عن ركب الحضارة الانسانية؟
إذا فكر البعض في ذلك الاتجاه، فلربما توسّعت دائرة النقاش بطريقة تدعو للقلق، بل تهدّد بضياع جدواه.
وحاضراً، من الوقائع التي تضرب الأعين ان الغرب متقدّم، فيما الواقع العربي – الإسلامي متخلف. يسهل قول مثل هذه العبارة، فهل يسهل اشتقاق الاسئلة، عدا عن الأجوبة، منها؟ لنأخذ المسألة الأساسية فيها: التخلف. ما هو التخلف؟ هل أنه شيء تتفق الآراء في تعريفه وتحديد مواصفاته، كي يصلح منطلقاً في السعي إلى إجابة؟ من السهل نسبيّاً الإشارة إلى وضع متقدّم علميّاً عاشته الحضارة العربيّة – الإسلاميّة. وفي ظل تلك التجربة المتقدمة، برز تداخل فوّار بين مسار العلوم من جهة، والثقافة بمعناها الواسع من الجهة الثانية.
مثال؟ وضع البتروجي في كتابه «مبادئ الفلك» (ووافقه في ذلك إبن الشاطر وعلماء «مرصد مراغة»)، نموذجاً للنظام الشمسي بيّن فيه أن الشمس وليس الأرض (التي اعتبرها كروية) هي مركز ذلك النظام. كان علم الفلك العربي ملك للانسانية، كما ساهم في تقدّم وعيها العلمي والتاريخي.
إذ نقض البتروجي وابن الشاطر وغيرهما نموذج الفيلسوف اليوناني بطليموس (الذي عرفه العرب وترجموه). ومهّدوا لثورة الفلكي البولندي نيقوس كوبرنيكوس في العلم. والجدير ذكره أن ثورة كوبرنيكوس الفكرية تُعتبر في الغرب، النقلة التي فتحت عصر الحداثة الاوروبية التي ما زالت مستمرة وتتطور.

عصر المأمون ونقاشاته

تصل بنا هذه الأمور مجدداً للقول إن العلم لا ينمو في فراغ، بل يتفاعل مع سياق اجتماعي وثقافي يجدر اعطاؤه الاهتمام الكامل.
وبالعودة الى التاريخ، ثمة شبه اجماع على القول إن عصر الخليفة المأمون مثّل ذروة في حركة العلم، بما في ذلك الترجمة التي ابتدأ بها العرب منذ مطلع العصر الأموي.
وشهد عصر الخليفة المأمون انفجاراً داوياً للخلاف على فهم النص الديني، فيما يُعرف بإشكالية قدم القرآن. والأرجح أنه ليس عبثاً أن ذلك النقاش تميّز بوقوف «الفلاسفة»، أي المتأثرين بالعلوم اليونانية وفلسفتها، في صف شبه موحّد، وجد أوضح تعبير له في مدرسة المُعتزلة وشيوخها.
وظلّ ذلك النقاش يتردد في التاريخ العربي طويلاً، وأشهره نقد الغزالي للمتأثرين بالفلسفة اليونانية وعلومها في «تهافت الفلاسفة» و «المنقذ من الضلال».
وعرض الغزالي الكثير من المسائل المتعلقة بالمناهج العلمية، وكذلك علاقة العلم مع العقل. ومن المشهور أيضاً أن الفيلسوف الاندلسي إبن رشد، توسّع في الردّ على الغزالي، خصوصاً في كتابه «تهافت التهافت».
وأدت أمور كثيرة إلى استغناء النظام التعليمي العربي – الاسلامي عن العلوم الطبيعية، وعزلها عن التفكير التعليمي والفلسفي والتشريعي. والأرجح أنه من الأمور التي أوهنت المسار العلمي لتلك الحضارة. يبقى ملفتاً تلك اللحظة من الترابط، في عصر المأمون، بين علو الأشتغال بالأفكار والفلسفة والنقد من جهة، والتقدّم العلمي من الجهة الثانية. بقول آخر، يعطي عصر المأمون نموذجاً عن الترابط بين ثقافة الاختلاف من جهة، والتقدّم في العلوم من الجهة الثانيّة.
والأرجح أيضاً أن التركيز المتطرف على الماضي يمثل نوعاً من ردود فعل، ويعكس تأثراً بما يُسمى «الــمركزية الأوروبية».
وبعبارة أخرى، كما الغرب يرى نفــسه مركزاً للعالم ويطلب من شعوب الارض تقليده، بما في ذلك المجال العلمي، تطلب «المركزية الاسلامية» الاعتراف بقوة اسهام الاسلام في الحضارة (وذلك مطلب مُحِقّ فعلياً)، لكنها تتطرف بعد ذلك باشتطاط لترى في نفسها نموذجاً مطلقاً بحيث لا يحصل التقدّم الا بالعودة اليه. وللنقاش بقيّة.

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى