درهم وقاية خير من قنطار علاج
أذكر أنني قرأت مرة بحثا مطولا للعالم الأنثروبولوجي بيار كلاستر (( pierre Klastre )) يصف فيه أنظمة الحكم في العصور البدائية حين كان البشر قبائل تتصارع دوما على الماء و الكلاء , و الأرض الخصبة . و إن هذه الحروب كانت تخلق أحيانا محاربين أشداء يسهمون أكثر من غيرهم في صناعة النصر , و كيف كانوا يعاملون من مجلس مشايخ القبيلة الذي كان ينعقد بعد النصر و يصدر قرارا إلزاميا بإسناد وظيفة الى هؤلاء المحاربين تلزمهم بالبقاء في المنازل عند نشوب حرب جديدة و تكليفهم بمساعدة نساء القبيلة في تحضير الطعام و العناية بالأطفال , حذرا من أن يغدوا أبطالا خارقين في نظر أفراد المجتمع القبلي و أن يتحولوا إذا ما انتصروا من جديد إلى حكام مقدسين مستبدين …
لا ريب أن هذه الملاحظة التي توصل إليها العالم المذكور بعد معاشرته بعض هذه القبائل عددا من السنين –”و هي قبائل ما يزال بعضها موجودا في غياهب استراليا و غابات الأمازون و إفريقيا” – تعني أن مجلس شيوخ القبيلة كان يحكم بأسلوب تشاوري قريب من الأسلوب الديمقراطي و أن تصرفه مع المحارب البارز في معارك القبيلة كان هدفه الوقاية من احتكار صلاحيات الحاكم إذا ما تسلط أحد هؤلاء المحاربين الأشداء على السلطة مدعوما بشهرته أكثر فأكثر حتى يتحول فعلا إلى حاكم مستبد و هكذا أبعده مجلس القبيلة عن هذه الفرصة – كما حدث لغيره كما يبدو – احتراسا من أن يركبه الغرور و الطمع بالإنفراد في الحكم .
هذا ما كان يحدث في العصور البدائية وقاية من الحكم الاستبدادي , غير أن المجتمعات الحديثة لم تلجأ بالضرورة إلى الأسلوب القبلي البدائي نفسه , بل صار ممكنا الاستفادة من مغزى تلك التجربة البدائية و لكن بأسلوب ديمقراطي جديد أكثر نضجا و تلاؤما مع العصور الحديثة كما حدث في بريطانيا مثلا مع ” تشرشل ” الذي قاد بلاده في الحرب العالمية الثانية قيادة حكيمة مظفرة ضد محاولات الحكم النازي الهتلري اجتياح الجزر البريطانية و صار
” تشرشل ” بطلا حقيقيا في نظر الكثير من أفراد شعبه , غير أن نتيجة الانتخابات التي جرت عقب الحرب جاءت بنتيجة عكس المنتظر منها إذ فاز الحزب المنافس لتشرشل بزعامة ” أتلي ” و كأن الشعب قام بإبعاد القائد البطل كما كان يصنع مجلس مشايخ القبيلة في العصور البدائية و لكن بأسلوب آخر, ولكنه مدفوعا في اتخاذ قراره الشعبي هذا بالحيز نفسه الذي كان يدفع قدامى البشر خوفا من تحول بطل الحرب إلى حاكم مستبد , كما حدث تماما للقائد العسكري الروماني ” قيصر ” الذي قاد معركة النصر ضد أعداء روما فتحول بعدما اختارته أكثرية مشايخ روما حاكما لها فإذا به يتحول بعد أمد قصير إلى ديكتاتور.
بهذا التصرف الحكيم أثبت الشعب البريطاني أن نظام الحكم القائم على الحريات العامة القانونية و الاحتفاظ به هو التغير الأرقى و المنشود من قبل البشر منذ قرون سحيقة و أن أي نظام للحكم يلغي هذه الديمقراطية يختنق و يخنق معه الشعب الذي أخضعه وهذا ما يفسر حقا كيف و لماذا تعاني معظم الأقطار الإفريقية والآسيوية من التخلف و التمزق و الخراب حتى الان …
قولوا إذن للطغاة أيا كانت أثوابهم التي يتسترون بها و شعاراتهم التي يرفعونها و طبولهم التي يقرعونها , قولوا لهم إنكم لن تصلوا أبدا إلى مبتغاكم و إن قيل أنكم واصلون فالطغاة البرابرة لا يصلون أبدا إلى حدائق الحرية و جنانها .