دروسٌ من الأندلس: استنهاض الغد

ما تزال حواضر الأندلس، وما تضمّه بين حناياها من أوابد تاريخيّة، كقصر الحمراء في غرناطة والمسجد الجامع في قرطبة وقصر المبارك في إشبيليّة، شامخة حتّى يومنا هذا، وشاهِدة على مرحلة عظيمة من تاريخ الأمّة العربيّة والإسلاميّة، ومَبعث فخر للإنسانيّة قاطبة بما قدّمته من إرثٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ. فبالنسبة إلينا كعرب ومُسلمين، كانت الأندلس، وما زالت، وستبقى، أيقونة الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي بُنيت بسواعد أجدادنا على أرضٍ زالت فيها الفروقات بين الوافد والمُعاهِد (الإسبانيّ)، وامتزجت الدماء، واختلطت الأعراق، وتلاقحت الثقافات، فأثمرت مزيجاً ثقافيّاً غير مسبوقٍ ونهضةً علميّة ما فتئ صداها يتردّد في أرجاء المعمورة.

هل نُلام إنْ حلمنا باستنساخ النموذج الأندلسي ونحن أحفاد الأندلسيّين؟ ثمّ هل اقترَن هذا النموذج – الذي طالما بقي في وجداننا ملتصقاً بتلك البيئة الأندلسيّة الساحرة التي أَلهمت الشعراء والأدباء – بالجغرافيا الأندلسيّة وبات حكراً عليها؟ في الواقع تدين حضارة الأندلس ونهضتها وثقافتها بالفضل لتضافر العديد من العوامل التي يكاد العارِف بها يجزم بأنّ توافرها مجتمعةً في أيّ زمانٍ أو مكانٍ من شأنه أن يُعيد إحياء هكذا نموذج ويقدِّم للعالَم من جديدٍ أنموذجاً حضاريّاً ونهضويّاً وثقافيّاً واعِداً ومؤثِّراً في المسيرة الإنسانيّة. وانطلاقاً من هذه الرؤية، فإنّ الدراسة التحليليّة والمعمَّقة لعوامل النهضة الثقافيّة والعلميّة الأندلسيّة يُمكنها أن تضع بين أيدينا مرتكزاتٍ يُمكن البناء عليها في سعينا نحو النموذج الحضاري المأمول. فما هي هذه العوامل “المُلهِمة”؟ وأيّ ظروف تلك التي جعلت من الأندلس منارةً للعِلم والثقافة ومركز إشعاعٍ حضاري؟

الاستقرار السياسي

يرتبط الازدهار بأشكاله كافّة، سواء على صعيد الاقتصاد أو المجتمع أو العِلم والثقافة، ارتباطاً عضويّاً بالاستقرار والأمان. وينطبق هذا الارتباط الوثيق إلى حدٍّ بعيدٍ على التجربة الأندلسيّة، حيث يُلاحظ أنّ النقلة العِلميّة الجوهريّة لم تبدأ إلّا بعد مرور ما يقارب القرن من الزمن على تأسيس الدولة الإسلاميّة في الأندلس. لقد احتاجت الدولة الفتيّة إلى أكثر من مائة عام لتبلغ مرحلة “النضوج”، مرّت خلالها بفتراتٍ متعاقبةٍ من عدم الاستقرار والثورات والاضطرابات الداخليّة. فبعد حوالى خمسين سنة من عصر “الولاة” – الذين انشغلوا في ما بينهم بصراعاتٍ على السلطة أنهاها وصول الأمير الشاب القوي ذي الخمسة والعشرين ربيعاً عبد الرّحمن الداخل (صقر قريش) وتأسيس الدولة الأمويّة في الأندلس، احتاجت البلاد إلى خمسين سنة أخرى حتّى مجيء عبد الرّحمن الثاني الذي شكّل عهده انطلاقة العصر الذهبي للعِلم والثقافة في بلاد الأندلس. وعلى الرّغم من أنّ هذه الفترة تُشكّل حوالى ثمن عمر الحقبة الأندلسيّة، إلّا أنّها كانت في غاية الأهميّة على مستوى تحقيق الاستقرار وبناء شكل الدولة وتحريك عجلة الاقتصاد وتأسيس قواعد ثقافيّة في الدولة الفتيّة.

الحُكم الرشيد

تُعدّ السياسة التي انتهجها الأندلسيّون في التعامل مع أهل البلاد الأصليّين والأقلّيات من أبرز مقوّمات نجاح الدولة واستقرار الحكم فيها آنذاك. تجلّى ذلك في الاعتراف بحقوق أبناء الأديان الأخرى، من نصارى ويهود، في تشييد دُور العبادة وإقامة الشعائر الدينيّة والاحتفال بأعيادهم؛ فقد وُثِّق تعطيل الدواوين الحكوميّة يوم الأحد، وإيقاف النشاط التدريسي في يوم عيد القديس خوان. وكما حريّة العبادة، لم يتمّ فرْض لغة الوافدين بالقوّة بل سُمح بتعدّد اللّغات. فإلى جانب اللّغة العربيّة، بقيت اللّغتان اللاتينيّة والعبريّة من بين اللّغات المُتداولة. ومع ذلك لم يؤدِّ هذا العقد الاجتماعي الحصيف الذي أسّسه ورعاه حكّام الأندلس إلى ذوبان العرب والمسلمين واضمحلال دينهم وفناء لغتهم في البلاد الجديدة. لا شكّ في أنّهم – أي حكّام الأندلس – استناروا في سياستهم هذه بالتجارب السابقة للفاتحين المسلمين مع شعوبٍ متنوّعةٍ على امتداد القارّتَين الآسيويّة والإفريقيّة. فكان أن أقبل الكثير من أبناء إسبانيا – ممَّن مكثوا في الأندلس – على اعتناق الدّين الإسلامي. كما استطاعت الثقافة العربيّة الإسلاميّة، التي كانت قد ازدهرت في المشرق العربي ونقلها المسلمون إلى الأندلس عبر الكُتب والعلماء والأدباء الذين وصلوا إلى البلاد، ترسيخ وجودها وتثبيت مكانتها من دون أن تَجِد منافسةً تُذكر من الثقافة المحليّة في حقبة كانت فيها إسبانيا والقارّة الأوروبيّة بأكلمها تغُطُّ في سبات ثقافي. لقد أسهم هذا وبشكل جوهري في انتشار اللّغة العربيّة باعتبارها لغة الدّين والدولة والعِلم والتعليم والأدب، ما انعكس في تهافت إسبان الأندلس على تعلُّم اللّغة العربيّة – ليُعرفوا لاحقاً بالمُستعربين – حتّى ظهر من بينهم أدباء وشعراء سطَّروا أدبهم بلغة الضّاد.

الحاكِم القدوة والزعامة الكاريزماتيّة

ليس هناك أدنى شكّ في أنّ صعود شخصيّة “الحاكِم القدوة الكاريزماتي” الذي يَجمع بين صفات رجل الدولة والقائد المحنَّك وحبّ العِلم والتشجيع عليه كان له الأثر الكبير في إقبال أهل البلاد على الاهتمام بالعِلم والثقافة والفنون؛ حيث يُعرف عن الداخل أنّه كان من أعظم حكّام الأندلس مكانةً في البلاغة والأدب، وبأنّه شجَّع العلماء وقرَّبهم إليه، فكان بذلك القدوة التي سار على نهجها من خلفه من حُكّام الأندلس. ومن عبد الرّحمن الناصر (الثالث) الذي أهداه إمبراطور بيزنطية متودّداً مخطوطَين عظيمَين، أحدهما في عِلم النبات والأدوية لـ “ديسفوريوس Disforius”، والآخر في السيرة وأخبار الملوك القدماء لـ “باولو أورسيو Paulo Orosio” كأغلى هديّة للأمير المعروف بشغفه بالكُتب، إلى الحكم المستنصر الذي كان يرسل المبعوثين إلى مُدن الشرق العربي ليأتوه بالنفيس من الكُتب حتّى جمع في مكتبته، أعظم مَكتبات العالَم في ذلك الوقت، نحو 400 ألف مجلّدٍ، نستقي أمثلةً عن رجالات الأندلس المولعين بالعِلم، والذين لم يقودوا البلاد إلى رخاءٍ اقتصاديٍّ فحسب، بل إلى ثورةٍ معرفيّة وثقافيّة بكلّ ما للكلمة من معنى.

توفير البيئة التمكينيّة للنهضة العلميّة والثقافيّة والفكريّة

يتطلّب توليد المعرفة وتطوير العلوم توفير مخزونٍ عِلمي وثقافي وبشري كقاعدةٍ يُمكن الانطلاق منها. ومن أهمّ مقوّمات بناء هذا المخزون، تركيز الاهتمام على كلّ مراحل التعليم بدءاً من المراحل الأولى. ففي الأندلس، انتشرت المدارس من ضمن المساجد وخارجها، ولم يقتصر التعليم على ميسوري الحال لأنّ الدولة تبنَّت تخصيص مصروفات للمدارس المجانيّة. وأسهَم إحجام أرباب العمل عن توظيف غير المتعلّمين، والطموح في تقلُّد مناصب رفيعةٍ في دواوين الدولة وتقريب الحكّام للعلماء وتكريمهم في تقاطر الناس على نهْل العِلم. وغدت مساجد الأندلس، كالمسجد الجامع في قرطبة والجامع الأعظم في غرناطة، من أوائل الجامعات التي أُسِّست في القرون الوسطى في إسبانيا وأوروبا والتي كانت تُدرِّس فروع العلوم والفنون والمَعارف المختلفة ويتتلمذ في أروقتها الباحثون والعُلماء والفقهاء في علوم الدّين والدنيا القادمون من كلّ أنحاء الأندلس وبلدانٍ أوروبيّة أخرى. وقد أُوليت مصادر المعلومات أهميّة كبرى، فانتشرت المكتبات العامّة والخاصّة عبر البلاد، وتنافَس القائمون عليها في جمْع الكُتب النفيسة والنادرة التي تتناول فروع المعرفة الإنسانيّة المختلفة، وأصبحت المساجد مناراتٍ للعِلم والتنوير ليس بمدارسها وكتاتيبها فحسب، وإنّما بمكتباتها وكُتبها أيضاً. وكان من عادة العُلماء أن يوقفوا كُتبهم على المساجد لجعْلها مُتاحة للطلّاب الدارسين. وفي مثل هذه البيئة النشطة ينمو “الاقتصاد المُرتبط بازدهار المعرفة” بعلاقة تآثرٍ تبادليّة تسمح لكلَيهما – أي الاقتصاد والعِلم – في تدعيم الآخر، وهو ما نراه جليّاً في صعود صناعة الورق في الأندلس بالتوازي مع انتشار الكُتب والمكتبات.

مع مرور الزمن، نشطت الحركة العلميّة والثقافيّة نشاطاً غير مسبوقٍ حتّى أضحت الأندلس بحقٍّ قاعدةً للعلوم ومَركزاً للثقافة. وليس من المستَغرَب أن تُشكِّل هذه البيئة الثقافيّة حاضنة مُلائمة لظهور أجيالٍ من كِبار العلماء والأدباء. كما برزت كوكبة من الفلاسفة، كابن رشد، وابن الكتاني، وابن مسرّة، وابن باجة، وابن طفيل وغيرهم، ممَّن كان لهم الأثر الكبير ليس في مسار الفلسفة العربيّة والإسلاميّة فقط، بل في مسار الفلسفة عالميّاً، وهو ما أشار إليه المُستشرق الإسباني خوان فيرنت Juan Vernet في كِتابه “فضل الأندلس على حضارة وثقافة الغرب” بقوله ” إذا كان القرن الحادي عشر في الأندلس عصر كِبار عُلماء الفلك، فإنّ القرن الثاني عشر كان عصر الأطبّاء والفلاسفة”. وما كان لهذا النشاط الفكري الحثيث لينتَعش لولا أجواء الحريّة الفكريّة التي عاشها عُلماء الأندلس ومفكّروه.

تنشيط التبادُل المَعرفيّ وحركيّة العقول

يُصاب المتتبِّع للحركة الفكريّة في الأندلس بالدهشة للديناميّة العالية في “حركيّة العقول” بين الأندلس والمَشرق على الرّغم من مشقّة السفر في ذلك الزمن؛ فقد نقلت العقول المُهاجِرة معها خبراتها وثقافاتها وتقاليدها. ومن بغداد أتى الكثيرون كزرياب (موسيقي وفنّان)، وأبي علي القالي (لغوي)، وصاعد البغدادي (لغوي وشاعر). وإليها رحل الطبيبان أحمد وعمر ابنا يونس الحرّاني ودرسا طبّ العيون قبل أن يعودا إلى الأندلس في فترة خلافة الحكم المُستنصر بالله الذي أحسن استثمار خبرتَيهما فعيَّنهما كطبيبَين شخصيَّين له. ومثلهما زار ابن زهر القيروان مصر طلباً لمزيد من المعرفة بالطبّ والعلاج. وفي دمشق استقرّ الحال بابن البيطار وابن عربي الأندلسيَّين.

لم يقتصر التبادُل المعرفي على انتقال العُلماء واستقرارهم في بلاد الأندلس بل تعدّاه من خلال انتقال نِتاجهم المَعرفي عبر المؤلّفات والكُتب. فقد بذل الأندلسيّون جهوداً سخيّة في جمْع الكُتب كما سبق ذكره. وازدهرت بشكلٍ كبيرٍ حركات النقل والترجمة من اللّغة العربيّة وإليها، وتأسَّست مدارس متخصّصة في الترجمة. وكان للمُستعربين دورٌ رئيس في ترجمة الكُتب العربيّة إلى اللّاتنينيّة والعبريّة لتُصبح في متناول المدارس التابعة للكاتدرائيّات والكنائس وعبرها انتقلت إلى سائر أنحاء أوروبا.

يضاف إلى كلّ ما سبق عاملٌ في غاية الأهميّة، يتجسَّد في الاستفادة من تجارب الدول الأخرى والتفاعل البنّاء معها. فيبدو جليّاً تأثُّر الأندلس بالتطوّر العِلمي في المشرق آنذاك، وسعي حكّام قرطبة لاتّباع نَهجٍ مُنافِس لأقرانهم في بغداد والقاهرة، بل وتوظيف مخزون المشرق الثقافي وعُلمائه الوافدين في مشروعهم النهضوي الحضاري. ويضاف هنا أيضاً التأثّر بتجارب الأُمم السابقة، وعلى رأسها المدرسة اليونانيّة، من خلال ما تُرجِم من مخطوطاتٍ قديمةٍ. وقد أهَّل ذلك كلّه الأندلس لأن تكون صلة وصل بين الشرق المُستنير والغرب الذي كان يسبح في ظلام العصور الوسطى، لتصبح قرطبة وغرناطة وإشبيلية ومُدن الأندلس الأخرى قبلة طلّاب العِلم والمعرفة في أوروبا، وملتقى كِبار العُلماء والمفكّرين.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى