دعوة إلى الحرب
«صوملة» سوريا خدمة لإسرائيل، تسهّل عملية ضم الضفة الغربية. هذه هي الغاية الفعلية لـ«قانون قيصر». جميع حروب الولايات المتحدة في المنطقة، العسكرية المباشرة منها و«الهجينة»، المكنّاة «ضغوطاً قصوى»، هدفها الأوّل والأساسي، قبل النفط، تأبيد التفوّق الإسرائيلي. تدمير العراق العام 2003 اندرج ضمن هذه الاستراتيجية الثابتة التي وضعت على رأس جدول أعمالها، في السنتين الماضيتين، خنق أطراف محور المقاومة إلى أبعد الحدود وإضعافهم، والتسبب في انهيار قطبيه الأساسيين، سوريا وإيران، إن كان ذلك ممكناً. عملية بناء القدرات العسكرية والصاروخية ومراكمتها من قبل أطراف المحور، وما تدخله من تغيير في ميزان القوى الاقليمي لغير مصلحة «إسرائيل»، دفعت فريق إدارة دونالد ترامب المتصهين عقائدياً و/أو أيديولوجياً إلى تسعير حربها الهجينة عليه.
مصدر واسع الاطلاع على ما يدور في كواليس واشنطن قال لـ«الأخبار» إن مسؤولاً بارزاً عن الملف السوري في هذا الفريق أسرّ له بأن «لا ضير من الصوملة إن خدمت أجندتنا». وبحسب المصدر، فإن المسؤول رأى أن «أوباما كان وستفالياً (نسبة إلى اتفاقية «ويستفاليا» التي نظّمت العلاقات بين الدول الأوروبيّة على قاعدة احترام حدود كل منها وسيادته) بمعنى ما، أي حريصاً على بقاء الدول، خصوصاً بعد تجربته الليبية، وما تلاها من سقوط هذا البلد في فوضى واقتتال. هذا ما منعه من توجيه ضربة موجعة إلى الدولة السورية، مستفيداً من ذريعة الهجوم الكيميائي العام 2013».
ويضيف المصدر: «نحن لا نقرأ في كتاب أوباما، ولدينا أولويات مختلفة». تتطابق هذه الأولويات مع تلك الإسرائيلية المتّصلة بضم الضفة الغربية. لكن شاك فريليش، النائب الأسبق لمستشار الأمن القومي في كيان العدوّ، وأستاذ العلوم السياسية في جامعتي كولومبيا (في الولايات المتحدة) و «تل أبيب»، حذّر في مقال له في «هآرتس» من مغبة أن يؤدي قرار الضم إلى اندلاع حرب مع «إسرائيل» على ثلاث جبهات، غزة وجنوب لبنان وسوريا. ربما عليه أن يضيف أن قرار تجويع الشعب السوري، ومعه الشعب اللبناني، وخنق سوريا لتفكيكها وتقسيمها، الذي تشارك في تنفيذه أطراف عربية بعد انقلاب جديد في موقفها، قد يسرّعان مثل هذه الحرب، وفي أكثر من اتجاه.
قانون لتقسيم سوريا
أظهرت تجارب تاريخية عديدة أن سلاح العقوبات، الذي كثيراً ما تلجأ إليه الولايات المتحدة لإسقاط الأنظمة المعادية، غالباً ما يكون عديم الفعالية. خير مثال على هذا الأمر كوبا المجاورة لها، و«المعاقبة» من قبلها منذ عقود طويلة، وكذلك كوريا الشمالية وإيران. غير أن أطرافاً وازنين في إدارة ترامب، وفي مقدّمهم أولئك المعنيّون بالشأن السوري، يعتقدون عكس ذلك. ووفق المصدر نفسه، فإن «هؤلاء مقتنعون، على نقيض ما يكرّره ترامب في خطاباته، بأن حرب العراق، وقبلها 13 سنة من الحصار الذي مهّد موضوعياً لها عبر إنهاك الدولة والمجتمع العراقيين، هي قصة نجاح. وهم جازمون بأن تشديد العقوبات على سوريا في ظروفها الحالية، سيؤدي إلى تآكل موارد الدولة، وسيمنع سلطتها المركزية من ممارسة سلطتها في المناطق التي استعادت سيطرتها عليها وإعمارها، وإلى نشوء بؤر كثيرة تتمتع بنوع من الحكم الذاتي القابل للتوسع تدريجاً». ويجري ذلك في الوقت الذي تتجه فيه المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، في شرقي الفرات، أو المجموعات المتحالفة مع تركيا في الشمال الغربي وإدلب، لتكون أشبه بكيانات مستقلة. الشمال الغربي بات مفتوحاً على العمق التركي، وشرقي الفرات على كردستان العراق، وتتدفق نحوهما السلع والعملة الصعبة، بينما بقية الأراضي السورية التابعة للدولة المركزية هي التي أضحت محاصرة.
عملياً، سيمثّل «قانون قيصر»، بعد دخوله حيّز التنفيذ، مرحلة متقدّمة مما تعتبره واشنطن «حرب الاستنزاف الطويلة» التي تشنها على «النظام في دمشق»، والتي ستؤدي بنظر واشنطن إلى «انحسار سلطة الدولة نحو العاصمة وبعض مناطق الساحل وانفكاك أخرى عنها».
ليس مفاجئاً أن يأخذ فريق ترامب بسياسة تعميم الخراب في الإقليم بعد هزيمة المرحلة الأولى من الحرب نتيجة صمود الدولة السورية ودعم حلفائها الاقليميين والدوليين. وتكفي نظرة سريعة إلى هوية المكلّفين بالملف السوري من قبلها، وجميعهم من العاملين في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، التابع للوبي الإسرائيلي، لتوضيح خلفيات هذه السياسة وغاياتها الرئيسية.
لكن اللافت هو أن أطرافاً عربية، تتقدّمها السعودية والإمارات، والتي كانت قد شرعت في تقارب مع سوريا، تسهم اليوم في هذه السياسة، متجاهلة أن الجبهة المقابلة، أي محور المقاومة الممتد من إيران إلى فلسطين، مروراً باليمن، لن يقبل بخراب سوريا. روسيا، من جهتها أيضاً، لن تقبل بنسف الإنجاز الذي شاركت في تحقيقه في سوريا، وهو ما أكده السفير والمبعوث الخاص للرئيس بوتين في دمشق، ألكسندر يفيموف، الذي جزم بأن «الارهاب الاقتصادي من المستحيل أن يحطم روسيا وسوريا».
خيارات عديدة للرد
يأتي هذا التصعيد الأميركي ضد سوريا في ظل وضع دولي سِمته الأهم عودة «التنافس الاستراتيجي» بين القوى العظمى. هذا ما يتناساه الذين أوصوا بهذه السياسة في واشنطن. لا مجال لتكرار سيناريوات العراق، ولا حتى ليبيا، في عالم اليوم، ولا إطلاق ديناميات لتقسيم سوريا من دون أن تتحرّك القوى الدولية التي لا مصلحة لها في ذلك، خصوصاً إذا كانت في خضم مواجهة ترتفع حدّتها مع الولايات المتحدة.
وإذا كانت إيران وروسيا وأطراف محور المقاومة قد لعبوا دوراً ميدانياً حيوياً للتصدّي لمشروع تدمير الدولة السورية، فإن المعطى المستجد، الذي يثير غضب الولايات المتحدة، هو الاهتمام الصيني المتنامي بسوريا. وقد أشار جوناثان فنتون هارفي، في مقالة على موقع «المونيتور»، إلى أن «سوريا تكتسب أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الصين التي يتوسع وجودها في الشرق الأوسط، ويتزايد التوتر بينها وبين الولايات المتحدة». ويذكّر الكاتب بأن الرئيس السوري كان قد رحّب في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بالمزيد من الاستثمارات الصينية في بلاده، وبمشاركة الشركات الصينية في إعادة إعمارها، وأعلن عن بداية محادثات مع عدد منها لهذه الغاية.
ولا شك في أن مسار فسخ الشراكة الاقتصادية والمالية والتجارية المتعاظم بين الصين والولايات المتحدة سيحفّز بكين على تجاوز الخطوط الحمر الأميركية التي سبق أن التزمت بها، وحالت دون تعاملها على نطاق واسع مع بلدان كسوريا. لكنّ هناك اعتباراً آخر، ذا طبيعة استراتيجية، يحكم المقاربة الصينية، وهو مشروع «عقد اللؤلؤ» الهادف إلى تعزيز النفوذ الصيني في شرق المتوسط عبر إدارة مجموعة من المرافئ في بعض بلدانه، إذ تدير شركة صينية حالياً مرفأ «بيراوس» في أثينا، وتقوم أخرى ببناء ميناء جديد في أشدود، ورشّحت ثالثة لإدارة ميناء حيفا.
وبما أن الضغوط الأميركية على «تل أبيب» تتزايد لحمل كيان العدو على إلغاء اتفاقه مع الشركة الثالثة والحد من علاقاته مع الصين، فإن الأخيرة تستدير، وفقاً لجيمس دورسي في «ذا غلوباليتس»، نحو البلدان «غير المتحالفة مع الولايات المتحدة، كسوريا، للاستثمار في ميناءي اللاذقية وطرطوس… وتعزيز تموضعها في شرق المتوسط».
السياق الدولي الراهن، والصراع الصيني – الأميركي على وجه الخصوص، يحسّنان من قدرة خصوم الولايات المتحدة في الإقليم على الصمود وكسر الحصار المفروض عليهم. غير أن هذا الأمر الذي قد يتطلب مدى زمنياً متوسطاً لا يتنافى مع العمل على إفشال مخططات الجبهة المعادية، الإسرائيلية – الأميركية، والملتحقين بها من أنظمة الخليج، في سوريا وفي فلسطين، بجميع الوسائل الضرورية والمناسبة. من أجل فلسطين وسوريا، لا ضير في أن يتحوّل الإقليم إلى كتلة من لهب.
صحيفة الأخبار اللبنانية