دلالات الانتخابات الإسرائيلية: هُوّة «القبائل» إلى اتّساع
«دولة إسرائيل مركّبة من أربع قبائل، يتعذّر عليها الاستمرار من دون تعاون وتشارك في ما بينها، وهذه القبائل هي: العلمانيون والمتدينون الحريديم والمتدينون القوميون والعرب». هذا التحذير ورد في الكلمة التي ألقاها الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، خلال افتتاح أعمال «مؤتمر هرتسليا السنوي» لعام 2015، في سياق تنبيهه إلى تبعات التشظّي بين مكوّنات الدولة، وتأثيره السلبي على وجودها. معظم التعليقات العبرية في حينه أجمعت على صحة توصيف ريفلين وعلى الجرأة في إعلانه، إلا أن الأعمّ الأغلب منها شكّك في إمكانية التوصل إلى صيغة اتحاد وتعاون وشراكة بين المكوّنات الأربعة المذكورة.
واحدة من دلالات نتائج العمليتين الانتخابيتين الأخيرتين أنها أكدت ما ورد على لسان ريفلين (مع التحفظ على إدخال فلسطينيي الـ48 ضمن المكوّنات الإسرائيلية): انغلاق الكتل أو القبائل على نفسها، واقتصار انتقال ناخبي كلّ قبيلة على أحزابها الخاصة بها، إلا استثناءً. ولو أعيدت الانتخابات للمرة الثالثة أو الرابعة، ستكون النتيجة هي نفسها. وعليه، هل فات الأوان على إمكان ردم الهوة؟ وفي حال النفي، هل ستتحوّل التناقضات فعلاً إلى تهديد يؤثر سلباً على بقاء الدولة؟
بالطبع، السؤالان كبيران جداً، وغير مبنيَّين على نتائج الانتخابات فقط، بل على واقع وجود هويات إسرائيلية متباينة يجري التعبير عنها في إسرائيل، وعن تهديدها الكامن، من دون انقطاع: اختلاف في الهوية الاجتماعية والثقافية والمنشأ والإرث التاريخي وتفسيراته، إضافة إلى الاختلاف في النظرة إلى الآخر حتى ضمن ما يُسمى بـ«القومية اليهودية» الجامعة، وكذلك في النظرة إلى الدولة ووظيفتها وشرعية منشئها، وتعريف المواطنة في كنفها، وشرعية قوانينها ونظامها وطرق توزيع مواردها، وواجبات حَمَلة هويتها.
دراسة النتيجتين الأخيرتين، إضافة إلى نتائج الجولات الانتخابية في العقد الأخير، تُبين أن كل قبيلة من القبائل الأربع ثابتة نسبياً في استحقاقها الانتخابي، على رغم كل التطورات الداخلية والخارجية التي كان من شأنها في كيان سويّ، أن تُغيّر التموضعات الداخلية وتُوزع القوى السياسية، علماً أن هذا الثبات يُعدّ دليلاً على التشظّي، أكثر من كونه مؤشراً إلى استقرار المكانة السياسية للمكوّنات. في ما يتعلق بالكتلة المتدينة «الحريدية» اللاصهيونية، فهي ثابتة تقريباً على مكانتها واستحقاقها الانتخابي من دون تغييرات، إلا ارتباطاً بإرث سابق مبنيّ على التمييز بين «الأشكنازيم» و«السفارديم»، والذي بدأ بدوره يتلاشى، وتحديداً لدى الحديث عن حزب «شاس» لليهود الشرقيين. أما «الحريديم» الغربيون «الأشكناز» (يهودت هاتوراه) فيكاد أن يكون استحقاقهم الانتخابي معادِلاً لنسبة تعدادهم السكاني. وهو ما يتكرر في كل عملية انتخابية. المعنى أن هذه الكتلة تتجه سريعاً لتكون تعبيراً عن شريحة سكانية واسعة تصل إلى خمس التعداد السكاني في إسرائيل، وتُعرّف نفسها وهويتها وتطلعاتها وواجباتها تجاه الدولة بشكل مغاير للقبائل الثلاث الأخرى. وهي تتمايز بمواقفها المبنية على الانتهازية، وتقديم المصلحة الخاصة للجماعة المتديّنة على المصلحة العامة للدولة الإسرائيلية.
ثاني القبائل المفترضة إسرائيلياً هي الكتلة العربية، أي المُمثِّلة لفلسطينيي الـ48، والتي أعادت الانتخابات الأخيرة تأكيد تمايزها عن بقية حَمَلة الهوية الإسرائيلية، بما يفوق ما هو قائم لدى «الحريديم»، حيث التمايز هنا أشدّ وضوحاً وأكثر حدّة. يكاد تقريباً أن لا يجمع بين «القبيلة العربية» كما سمّاها ريفلين و«القبائل الثلاث الأخرى» سوى الوجود في حيّز جغرافي واحد (فلسطين المحتلة)، مع الاختلاف على كلّ شيء تقريباً. ويبدو أن نجاح تكتل أحزاب فلسطينيي 48 في الانتخابات يؤمّن لها تواصل تمايزها، ومنع انزلاق ناخبيها إلى أحزاب يسارية، مثل حزب «ميرتس»، بغضّ النظر عن الموقف من صحة الدخول أصلاً في العملية السياسية الإسرائيلية، علماً أن زيادة عدد ممثلي الفلسطينيين في «الكنيست» قد تُصعّب سياسة التفريق العنصري المُمأسس ضدهم.
الكتلة الثالثة هي الكتلة الدينية الصهيونية التي سمّاها ريفلين «قبيلة المتدينين القوميين». هذه أيضاً تمثيلها في «الكنيست» متوافق مع حجمها الفعلي، وإن جرى سحب جزء من مؤيّديها إلى الأحزاب اليمينية، وتحديداً حزب «الليكود»، نتيجة الدعاية الانتخابية التي أوهمتهم بأن «الليكود» أكثر قدرة على تحقيق الأهداف الصهيونية من أحزابهم هم، وتحديداً اللاتنازل عن احتلال الأرض الفلسطينية. شبه السقوط الذي مُنيت به تلك الأحزاب في انتخابات نيسان/ أبريل، ونجاحها في انتخابات أيلول/ سبتمبر بعد تكتلها في قائمة واحدة، يتلاءمان نسبياً مع استحقاقها العددي، ومع التقديرات التي ترد في المراكز البحثية حول تراجع مكانة الصهيونية الدينية وتأثيرها، في ظلّ توقّعات بذوبان أفرادها داخل البوتقة العلمانية، وإن مع تمايز ديني «مخفّف».
أما الشريحة الأكبر لدى اليهود الإسرائيليين، والتي سمّاها ريفلين القبيلة العلمانية، فقد أعادت الانتخابات الأخيرة تأكيد مكانتها وحضورها الواسع، وإن جرت التعمية على حقيقة قوتها على خلفية التفريق التقليدي بين اليمين والوسط واليسار. برامج القوى السياسية لكتلة العلمانيين، سواء وضعت نفسها يميناً كما هو حال حزب «الليكود»، أم وسطاً كما هو حال حزب «أزرق أبيض» وحزب «العمل»، أم يساراً (مع التحفظ) كما هو حال حزب «ميرتس»، هي برامج تكاد أن لا تحمل أي خلاف في ما بينها، وإن وُجدت اختلافات فستكون انعكاساً لإرث من الماضي. الخلاف الوحيد بين الأحزاب العلمانية هو شخص بنيامين نتنياهو نفسه، بعيداً من البرامج السياسية التي كانت قبل عقود معيار التفريق الرئيس بينها، وتحديداً الموقف من القضية الفلسطينية والعملية السياسية مع العرب والفلسطينيين. حالياً، ثمة توافق يجمع الأغلبية الساحقة من العلمانيين (يخفي نفسه وراء الخلاف حول نتنياهو)، وتحديداً على الموقف المُعادي لكتلة المتديّنين «الحريديم» وكتلة فلسطينيي 1948، وبقدر أقلّ كتلة المتدينين الصهاينة. هكذا، يتبيّن أن لا فرق بين موقف أفيغدور ليبرمان من خصومه وأعدائه، وموقف بقية الأحزاب الإسرائيلية العلمانية منها (عدا ميرتس). الفرق فقط هو في مدى تظهير العداء، وضرورة تظهيره الآن، والمواجهة الفورية أو المؤجّلة في انتظار ظروف أكثر مُلاءَمة. بناءً على ذلك، تُعدّ الكتلة العلمانية كتلة واحدة في جوهرها، وهي تركّز في تطلعاتها – باستثناء الشخصنة – على الرؤية المشتركة للدولة الإسرائيلية التي تريدها يهودية وعلمانية، إن لجهة نظام العيش أو لجهة نظام الحكم، وإن برز الاختلاف في ما بينها حول التوقيت والكيفية وإمكانية فرض هذه الرؤية على الآخرين.
بالنتيجة، لكلّ قبيلة من القبائل الأربع هوية خاصة بها تحت سقف الهوية الإسرائيلية الجامعة. ولكلّ واحدة منها «مواطنون» تابعون لها، يمكن لهم الانتقال بين أحزاب القبيلة الواحدة، لكن يتعذّر عليهم الانتقال إلى قبيلة أخرى إلا في حال تغيير الهوية القبلية نفسها. معنى ذلك أن تحذير الرئيس الإسرائيلي في محلّه، وتحديداً في ما يتعلق المصالح المتضاربة للقبائل الأربع، والتي من شأنها أن تتحوّل إلى تهديد في حال وصول الخلافات إلى حدّ التصادم، خاصة في ظلّ سعي مكونات إلى إلغاء مكانة مكوّنات أخرى، والذي تقتصر أشكاله حالياً وأدوات التعبير عنه على الأساليب اللاعنفية. هذه التناقضات ستتنامى مع شعور عامة الإسرائيليين بتقلّص التهديد الأمني الخارجي الذي ساهم طويلاً في ترحيل الخلافات إلى مرتبة متدنّية في جدول الأولويات. لكن ما يعترض تلك النتيجة هو حقيقة أن القبائل الأربع كانت موجودة منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، والخلافات في ما بينها أيضاً كانت موجودة، ومن الصعب الركون فقط إلى التهديد الأمني الخارجي كعامل رادع لمنع تفاقم الاختلافات. إلا أن الحقيقة أيضاً أن ما كان يمنع الانفجار الداخلي هو هيمنة القبيلة العلمانية، مقابل ثلاثة مكوّنات أخرى صغيرة جداً، الأمر الذي مكّن إسرائيل من استيعاب تداعيات الانقسام وأخطاره. أما الخطورة الحالية فتتمثل في تعاظم التعداد السكاني لتلك المكوّنات الثلاثة، قياساً بتراجع التعداد السكاني للعلمانيين أنفسهم، وإن حافظوا على الأغلبية (ما يقرب من نصف الإسرائيليين). بتعبير آخر، تتجه إسرائيل إلى أن تكون عربة تجرّها أربعة أحصنة، كلّ منها يريد أن يسير في اتجاه مغاير لما تريده البقية.
صحيفة الأخبار اللبنانية