دمشق وأنقرة.. هل حان وقت اللقاء؟
دمشق وأنقرة.. هل حان وقت اللقاء؟.. بالرغم ممّا تسبّبت فيه السياسة التركية من كوارث في المنطقة، فإن استمرارها في السياسات نفسها انعكس على الرئيس رجب طيب إردوغان وحزب “العدالة والتنمية”، بشكل سلبيّ على مستوى الداخل التركيّ.
أثارت التسريبات الصحافية بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لدولة الإمارات العربية المتحدة الحديث عن رؤية جديدة لأنقرة لإعادة العلاقة مع دمشق، وخاصةً ما ذكرته صحيفة “حرييت” التركية، عن أن “السياسة المتوازنة التي اعتمدتها تركيا مؤخراً والدور الذي لعبته أنقرة في الأشهر الأخيرة، ولا سيّما إزاء الحرب في أوكرانيا، جعلا الوقت الحاليّ مناسباً لحل الأزمة السورية”.
فهل يمكننا أن نشهد بداية عودة العلاقة بين أنقرة ودمشق، وبينهما ما صنع الحدّاد، على الرغم من نفي مصادر في الخارجية السورية لما يجري تداوله؟
ينتمي كلا البلدين إلى منطقة حضارية واحدة، لم تعرف حدوداً جغرافية فاصلة بينهما، وتحتوي قوميات متعددة ومتداخلة في ما بينها، تعايش بعضها مع بعض، خلال 5 آلاف عام، ضمن إطار إمبراطوريات متعاقبة على المنطقة الممتدة بين الهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول ووادي النيل، شكلت فيها منطقة الهلال الخصيب ساحة صراع وتداخل واستقرار.
وعلى الرغم من إخراج المنطقة من إطار الفعل الحضاري والإمبراطوري، منذ 100 عام ونيّف، وتقسيمها على أيدي القوى الغربية الفاعلة، وخاصةً بريطانيا وفرنسا، فإن واقع الجغرافيا السياسية والسكانية فرض نفسه، وأدخل المنطقة في أتون الصراعات الدولية، ما تسبّب في تفجير سوريا والعراق من الداخل.
وبالرغم ممّا تسبّبت فيه السياسة التركية من كوارث، (باعتبارها الفاعل الخارجي الأكبر في الحرب السورية، بحكم الحدود الأطول للبلدين أحدهما مع الآخر، والتداخل السكاني الكبير، ودعمها لمجموعات سكانية باستغلالها لعاملي الدين والمذهب، واحتلالها المباشر لمناطق واسعة من الشمال السوري)، فإن استمرارها في السياسات نفسها انعكس على الرئيس رجب طيب إردوغان وحزب “العدالة والتنمية”، بشكل سلبيّ على مستوى الداخل التركيّ. ذلك أن الانتقال التركي من رِهانات القوة الناعمة في تسيّد المنطقة، إلى رِهانات القوة الخشنة، دفعَ إلى تدخل القوى الحليفة لدمشق، والمتضرّرة من سياسات أنقرة، وخاصةً إيران وروسيا والصين، إلى التدخّل عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، لمنع سقوط سوريا في يد تركيا، وهي التي شكلت رأس حربة الناتو والولايات المتحدة في هذه الحرب، الأمر الذي تسبّب في تراجع الاقتصاد التركي إلى أدنى مستوى، وتلاشي ألق التجربة الإردوغانية داخلياً، وانخفاض مستوى معيشة الأتراك، وترافق ذلك مع الفساد العائلي الكبير بالاستحواذ على مفاصل الاقتصاد التركي، وهو ما أدّى إلى انخفاض مستوى المؤيدين لإردوغان إلى حدود 33%، وهي أدنى نسبة منذ أن تسلّم الحكم في عام 2002. معطيات تجعله يعيش هاجس عدم نجاحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023.
مجمل هذه التبعات دفع بالرئيس إردوغان إلى إعادة رسم سياساته في كل المنطقة، ومحاولات العودة لاستراتيجية “صفر مشاكل”، بعد أن تسبّبت سياساته التوسعيّة الخشنة من جهة، والفساد الداخلي من جهةٍ أُخرى، في خسائر داخلية كبيرة، فكان لا بدَّ من المصالحة مع الإمارات ومصر والمملكة العربية السعودية و”إسرائيل”، استدراكاً لما سُتصبح عليه المنطقة، إذا ما تمت العودة إلى الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، وما يمكن أن تتركه هذه العودة من آثار سلبية على الطموحات الإقليمية لتركيا، وانعكاس ذلك على وضع إردوغان الداخلي.
ولكن إعادة رسم السياسة هذه لا يمكن أن تصل إلى نتيجة إيجابية في ظل استمرار سوريا على وضعها الحالي؛ فالقادة الأتراك يدركون أن لا وجود لمدخل لهم إلى المنطقة العربية إلا من البوابة السورية، وهذا ما فعلوه عندما أراد الرئيس السابق عبد الله غول الانفتاح على المنطقة، بدءاً من المملكة العربية السعودية أو مصر، حيث أتاه من همس في أذنه قائلاً: “بوابتك من سوريا”، وإثر ذلك كانت الزيارة إلى دمشق أوّلاً، فانفتحت له أبواب الجزيرة العربية وشمال أفريقيا.
والمسألة الثانية التي تؤرّق إردوغان هي مسألة اللاجئين السوريين، الذين انقلبوا إلى ورقة ضغط عليه في الداخل التركي، بعد أن استثمرها بشكل واسع لصالحه في الماضي، وهو بحاجة الآن إلى إرجاع ما لا يقل عن نصفهم إلى سوريا، في الحد الأدنى، قبل نهاية شهر أيلول من هذا العام، استعداداً لتغيير المزاج التركي الداخلي، قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
والمسألة الثالثة التي تشغل باله هي ورقة الكُرد “الأوجلانيين” في الشمال السوري، وجنوبي شرقي تركيا، وما يمكن أن يقدّمه حزب “الشعوب الديمقراطي” لخصومه في الانتخابات المقبلة، ولذلك فهو بحاجة إلى التعاون مع دمشق لنزع هذه الورقة من يد الولايات المتحدة، التي أمّنت الغطاء لاستمرار واقع انفصال منطقة الجزيرة السورية عن قرار دمشق.
وفي المقابل، فإن دمشق لم تُظهر نفياً قاطعاً على مستوًى دبلوماسيّ عالٍ ومعلن، لما يُنشَرُ من التسريبات التركية حول إمكانية عودة العلاقات مع أنقرة، ربما لأنها تدرك أنْ لا استقرار وسلام في سوريا من دون تركيا، مثلما تدرك أن لا دور إقليمياً حقيقياً لتركيا متصالحاً مع المنطقة من دون سوريا، وأن واقع الجغرافيا والتاريخ والثقافة سيفرض نفسه على مستقبل العلاقة بين البلدين، وفي الوقت ذاته هذا لا يمكن أن يتم باستمرار احتلال أنقرة لمناطق واسعة من الشمال السوري، والعمل على تتريكها، إضافة إلى استمرار دعم المجموعات المسلحة، ومحاولات تركيب دستور جديد يُوسّع من نفوذها في سوريا.
والواقع، إن مسألة عودة العلاقات بين تركيا وسوريا أمر حتمي، ولكنها محكومة بعقبات كثيرة، واشتراطات سورية لا يمكن لأنقرة إلا أن تحقّقها، مقابل الحصول على مكاسب اقتصادية في مجال إعادة الإعمار، وتأمين حدودها الجنوبية مع سوريا، والوصول إلى حقيقة لا مفرَّ منها لتركيا، ولجميع دول المنطقة وشعوبها، بضرورة العودة إلى السياق التاريخي الطبيعي، وفقاً لسياسات جديدة بعيدة عن الصراعات المدمرة، والتحوّل نحو مفهوم جديد، مبنيّ على ضرورة بناء نظام إقليميّ جديد لصالح الجميع، شرط عدم تقَبُّل “إسرائيل” الغريبة عن النسيج الطبيعي التاريخيّ.