دمشق ومخاطر رهانات الحرب الأوكرانية
لم يكن من المستغرَب أن تذهب دمشق بعيداً، في تأييد الحرب الروسية الأميركية الحرب الأوكرانية، وهي التي ربطت وجودها واستمرارها بموسكو، وبنتائج الحرب فيها. فهل ستنجح في خيارها الوحيد؟
لم تكن خيارت دمشق متعددة بعد بدء ما يسمى “الربيع العربي”، فهي وُضعت أمام خيار صعب، أفقدها القدرة على الاستمرار في سياسة التوازنات بين المتناقضَين الدوليين، روسيا والولايات المتحدة، والدول الإقليمية المتناقضة، إيران وتركيا والسعودية و”إسرائيل”. فهي وُضعت أمام خيار وحيد، مفاده قبول مرور أنابيب الغاز القطري إلى تركيا وأوروبا عبر أراضيها، لمواجهة الغاز الروسي المُغذي لـ 40 % من القارة الأوروبية “العجوز”، بالإضافة إلى الطلب منها إعادة ترتيب علاقاتها الإقليمية على نحو يصُبّ في مصلحة أمن “إسرائيل”. فكان من الطبيعي أن ترفض كِلا الأمرين، الأمر الذي تسبّب باندلاع الحرب في سوريا وعليها، بينها وبين القوى الإقليمية والدولية الحليفة لها من جهة، وبين الحلف الذي تقوده واشنطن من جهة أخرى، وهو ما تسبب بأكبر كارثة لسوريا في تاريخها.
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، أدركت دمشق أن قرار موسكو القاضي بالذهاب نحو الحرب هو قرار وجودي، ولا يمكنها أن تخسر هذه الحرب، في أي شكل من الأشكال، ولو اضطرّها الأمر إلى أن تستخدم الأسلحة النووية التكتيكية في الحد الأدنى، عدا عن أوراق القوة غير العسكرية، والتي تمتلكها موسكو، على المستوى الاقتصادي، وهذا ما أبرزته من خلال حالة التضخم الاقتصادية العالمية، والناجمة عن العقوبات الغربية، والانتقال إلى فرض التعاطي بالروبل مع الدول غير الصديقة لها، كخطوة أولى في مجال مبيعاتها للطاقة.
وبنت دمشق موقفها على اعتبار أن الحرب الجديدة، ستؤدي إلى ولادة نظام دولي جديد، وهي التي أدركت، من الأعوام الأولى للحرب عليها، أن لا خروج لها من الكارثة، إلاّ بولادة هذا النظام، وخصوصاً بعد أن اختبرت التحالف الروسي الصيني الإيراني منذ عام 2011، والذي شكل لها عنصر حماية على مستوى منع شرعية اجتياح سوريا عبر مجلس الأمن، ومن خلال الدخول العسكري الإيراني والروسي، بصورة مباشرة، من أجل منع سقوط سوريا في أيدي المجموعات المسلحة السورية والدولية، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية.
ومن هنا، كان استثمار دمشق فرصة الاصطفاف الكامل مع موسكو، والذهاب نحو الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانس، اللتين تقطنهما أكثرية روسية، شرقيَّ أوكرانيا، في إقليم الدونباس، في إثر إعلانهما استقلالهما، ثم ضمهما إلى روسيا. وقد تذهب أكثر من ذلك بالسماح لمتطوعين سوريين بالذهاب للاشتراك في القتال، وهم الذين اكتسبوا مهارات قتالية في الحروب اللامتماثلة.
ويعزز موقف دمشق في الاصطفاف الكامل مع موسكو، رهانها على أن العالم ما بعد نهاية الحرب الأوكرانية، سيكون مغايراً كلياً، واعتبارها أن الحرب في سوريا وعليها هي نتيجة الصراع الدولي والصراع الإقليمي على بنية النظام الدولي، وأن لا خلاص لها من كارثتها سوى بولادة نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب والسياسات والثقافات، بينما استمرار هذا النظام الحالي سينعكس على وجود سوريا ذاتها، على نحو لا يمكن التنبؤ بمآلاته على سوريا، سياسياً وجغرافياً وديمغرافياً.
وعلى الرغم من رهان دمشق الكامل على نتائج الحرب، فإن رهانات الأطراف الدولية والإقليمية قد لا تتطابق مع الرهان السوري، وخصوصاً مع وجود العاملين التركي و”الإسرائيلي”. فعلى الرغم من تورطهما، على نحو غير مباشر، في الحرب، واصطفافهما مع الجانب الأوكراني، فإن الدولتين تتعاطيان بحذر شديد مع روسيا، وتركتا هامشاً كبيراً للمناورة في علاقتهما بها، وعدم الذهاب بعيداً في إغضابها. ولم تشتركا في العقوبات عليها، بل تحولت “تل أبيب” إلى ملجأً لأصحاب رؤوس الأموال الروس، كمنطقة آمنة لهم.
في المقابل، فإن تركيا طرحت نفسها وسيطاً جيداً بين موسكو وكييف، بقبول الطرفين لذلك، وتحولت مدينة أنطاليا السياحية، التي يقصدها السياح الروس والأوكرانيون أيضاً، إلى الملتقى التفاوضي الأول لوفدي الدولتين، الأمر الذي يجعل الحسابات الروسية بالتعاطي مع تركيا مغايرةً لما يرغب فيه السوريون بعد انتهاء الحرب، والتي يمكن أن تمتد أعواماً، في تداعياتها عسكرياً.
قد يشكل موقف الاعتراف السوري باستقلال دونيتسك ولوغانسك، وضمهما من جانب روسيا، بعد توقيع الرئيس بوتين على مقترح مجلس النواب الروسي، نقطة ضعف في المستقبل، وخصوصاً بعد نهاية الحرب، التي لا يمكن للقيادة الروسية أن تخسرها، مهما كلف الأمر. وبالتالي، فإننا سنكون أمام واقع جديد، باعتبار تركيا ذات أولوية في المحاولات الروسية لاحتوائها وإخراجها من حلف الناتو، وضمها إلى المجال الأوراسي، وهو ما يدفع تركيا إلى أن تطالب بحقها في الحفاظ على أمنها القومي، ومحاربة المجموعات “الإرهابية” في الشمال السوري، وفق زعمها، وقد تطالب بضم الأراضي التي احتلتها، باعتبارها جزءاً تاريخياً وجغرافياً من الدولة التركية، استناداً إلى الميثاق “المللي” عام 1918، أسوةً بالإقليمين الأوكرانيين. وهذا ما دفع الصين وإيران إلى عدم الذهاب إلى الاعتراف بضم الإقليمين إلى روسيا، على الرغم من تحالفهما الاستراتيجي الكبير معها، فأصدرا بيانين دبلوماسيين منفصلين، يحمّـلان فيه الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية الحرب في أوكرانيا. فالبلدان يحتويان على تنوع ديني وقومي، يتيح للدول الكبرى إمكان اللعب بالأمن القومي لكل منهما.
لا شك في أن روسيا دولة صديقة، لكنها محكومة باستراتيجيات الدول العظمى، التي تتباين حساباتها عن حسابات الدول المتوسطة والصغيرة، بالإضافة إلى حسابات النظام الدولي المتعدد الأقطاب، والذي قد يدفع إلى إعادة رسم خرائط العالم بأجمعه، وخصوصاً في مركز العالم القديم، والذي يضم الهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول ووادي النيل، وبينها منطقة الهلال الخصيب، التي تحتاج إلى سياسات مغايرة على مستوى سوريا والعراق بصورة أساسية، كي يضمنا وجودهما واستمرارهما في نظام إقليمي جديد.
الميادين نت