دنقل و30 عاماً من ملاحقة الأسطورة (عبلة الرويني)
عبلة الرويني
أشعر بالتورط كاملا..
ما الذى يمكن أن أكتبه عن أمل في ذكراه؟ ماذا أقول؟ وكيف لي أن أرسم صورته من جديد؟
هل أعيد إنتاج ما أعرفه.. عشته وعايشته عن قرب.. أم أضيف وعي المسافة، في محاولة لوضع صورة مختلفة أو قراءة مغايرة لشخص ما زال بكامل حضوره وإن اختلفت السنوات واختلف أصحابها.
هل أمل دنقل هو تلك الصورة البعيدة؟
أم هو هذه الصورة القريبة؟
أم هي محاولة لرسم صورة مهما اقتربت تظل بعيدة.. صورة بعيدة لشخص قريب..
أشعر بالتورط كاملا..
حين تفرض الذكرى حضورها، ويلح السؤال. أنا الهاربة من ملاحقة الأسطورة ومكابدة الذكرى..
(ولست نبيا
ولكن ظلك أخضر)
ما الذي أحال أمل دنقل إلى «أسطورة».. «أمثولة» وحكاية يتناقلها الناس بكثير من الإعجاب، وكثير من الانبهار؟
كيف صعد الإنسان إلى الفكرة والرمز؟ كيف تحول إلى ضوء؟
الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد، فالأسطورة دفء للعقل والجسد، وهي في جوهرها موقف شعري.. رؤية وفلسفة كاملة، وحكاية تستعصي على الموت..
هل هو الشعر وفرادة الموهبة وخصوصية الصوت؟
– ربما
هل هو التمرد .. تلك الحدية، لا تلين ولا تقبل أنصاف الحلول؟
– ربما
هل هو المرض والألم والموت الذى اختطفه فى أوج حضوره ووهجه في الأربعين من عمره؟
ربما كل ذلك.. لكن المؤكد أيضا أن ثمة شيئا آخر يسكن هذه الروح المتوهجة.. شيء ساطع وحقيقي، صورة حية لشخص قاطع لا تعصف به «الازدواجية» تلم الآفة التي شرخت كثيرين. أصابت البعض بالضعف، وأصابت البعض بالانكماش.. وانشغل آخرون بحماية المسافة وحماية مصالحهم أيضا.
كان أمل نفسه دائما، من يقرأ شعره يعرف بدقة ملامحه، ويتعرف على صفاته، ومن يعرفه يدرك قصائده.
أمل دنقل مثقف حقيقي، ليس بحجم ما قرأ واهتم وانشغل بكتب اللغة وكتب التراث والتاريخ والسياسة والأدب، ولكن بحجم ما مارس هذ الثقافة في حياته اليومية وتعامل بها.. ثقافته تمارس في تفاصيل ومفردات يومه العادي.. وممارسته الثقافية هي ثقافته تصوبها وتصونها.. ذلك وعيه النافذ.. وذلك إبداعه.. فالشعري مشروط «بالتاريخي» والدور «الاجتماعي» لا يقل أهمية عن الدور «الجمالي»..
مارس أمل حريته، بقدر ما طالب بها، وكانت محور شعره.. أن يكون هو نفسه دائما..
تلك أحد عناصر قوته.. يفعل ما يريده هو، لا ما يريده منه الآخرون.. قصيدته لا تتواطأ ولا تنحني وكذلك هو أيضا.. صلابة تشبه بيئتها.. ذلك السطوع الجنوبي، وتلك الملامح الصخرية المنحوتة..
شادي عبد السلام كان يريدني أن ألعب بطولة فيلم «أخناتون»
– أنت بالفعل تشبه أخناتون تماما
– هو الذي يشبهني
في زيارة إلى الأقصر.. بعد سنوات عديدة من رحيل أمل، أهداني أحد الأصدقاء تمثالا صغيرا من البازلت الأسود لرأس «أخناتون» وقال: «هذا هو أمل دنقل».
…..
………
يصر جابر عصفور على انشغال قصيدة أمل دنقل «شأن كل الشعراء القوميين» بالبطولة والشخصيات الكبرى، البطل، الرمز، القائد.. من الزير سالم وصلاح الدين حتى عبد الناصر.. وإن أخذ الانشغال شكل المعارضة والاختلاف.
وبالفعل أمل دنقل شاعر قومي، تلك خصوصيته الواضحة لكن بطله الحقيقي على امتداد قصائده كان دائما هو «الإنسان الصغير» المعلق على مشانق الصباح، نزيل الفنادق الصغيرة والغرف الباردة، الجندي المنساق إلى حروب لا ناقة له فيها «يدعى إلى الموت ولا يدعى إلى المجالسة».
نقل أمل بقصيدته محور القداسة من «الإلهي» إلى «البشري» من «الإنسان الكبير» إلى «الإنسان الصغير» والرجل العادي.. أعاد الاعتبار إلى التجربة الإنسانية.. فالبشر هم «التجربة» وهم رصيده الإنساني، ورصيده الجمالي أيضا.
كل من شاهده يوما، أو جلس معه على قارعة الطريق قال: «كان أمل صديقي»!
وتلك حقيقة.. فذلك الحاد الساخر، المعتز بنفسه وحضوره، بصورة لافتة، ويعرف كيف يصل إلى القلب مباشرة.. ينزع الأقنعة ويخترق المسافة .. يدمرها حيث يكون الإنسان حقيقة نفسه «فالجنوبي يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة والأوجه الغائبة»..
في زيارته الأولى إلى القاهرة عام 1959 حرص على زيارة «نخلة» في أرض الجزيرة على الضفة الأخرى للنيل.. إنها نخلة محمود حسن إسماعيل.. بطلة ديوانه «أغاني الكوخ» وغيره من الدواوين. كانت تلك الزيارة تعني المجاهرة بعمق العلاقة بمحمود حسن إسماعيل، الشاعر الأكثر تأثيراً في أمل دنقل وفي أجيال طويلة من الشعراء.. والزيارة تنطوي على ذلك البعد الأسطوري حيث النخلة: «إنسان» تنحني لترد السلام، وتموت فقط إذا قطع رأسها، وتثمر إذا اقترب منها رجل وأقســـم أن يقطعـــها إن تثـــمر هـــذا العام!
لم أبتعد كثيرا، فالبحث عن نخلة في القاهرة لإلقاء التحية عليها، هو تعبير عاطفي جدا لشخص لا يجاهر بمشاعره. ولا يفصح ولا يبوح.. شخص يحترف مداراة عواطفه مثلما لا يحب قراءة أشعاره.. يخجل إذا اطريت شعره وأطريته.. ميراث صعيدي يربط المشاعر أو التعبير عنها بالضعف.. وأمل الذي تدرب منذ العاشرة من عمره «بعد موت أبيه» أن يكون رجل البيت.. تدرب أيضا كيف يبدو ذلك الخشن الحاد لكي لا يبدو ضعيفا.. «فالناس تفر من السفن الغارقة» تلك عبارته الأثيرة.. لا يريد أن تغرق سفينته.. يريد أن يكمل خطواته ويقطع الشوط.. الأهم أنه لا يريد أن يغادره الناس..
بكى حين مات يحيى الطاهر عبد الله دون أن يشارك في جنــازته «في حي خاص به وحده» وبكى حين وضعت الممرضات بمعهد السرطان الفراشات الخضراء في وريد كريم ابن شاعر العامية محمد سيف.. كان كريم في الثالثة من عمره حين صار «الرفيق» يسكن الغرفة المجاورة للغرفة رقم (8) التي يسكنها أمل دنقل في معهد السرطان!
صحيفة السفير اللبنانية