![](https://greatmiddleeastgate.com/wp-content/uploads/2025/02/Dr-Muhamad-Horany-1.jpeg)
لا أحدَ يُنكرُ أنَّ المُؤسَّساتِ السُّوريَّةَ، على اختلافِ أنواعِها، كانتْ تُعاني منْ مُستوياتٍ مُتجذِّرةٍ منَ الفسادِ الذي تَغلْغلَ في مُعظَمِ مَفاصلِ الدولةِ، وكانَ هذا الفسادُ، أحياناً، مُقَوْنَناً أو مَحْمِيّاً منْ جهاتٍ مُتنفِّذةٍ كرَّستْ وُجودَها للحفاظِ عليه، وعلى الرَّغْمَ مِنْ أنَّ هذا الواقعَ أدَّى إلى إضعافِ أُسُسِ الدَّولةِ وإهدارِ مَواردِها، لكنَّ ذلكَ لا يعني غِيابَ الشخصيَّاتِ الوطنيَّةِ الشَّريفةِ التي حاولتْ مُقاوَمتَهُ في مُختلفِ المُؤسَّساتِ، مَدَنيَّةً كانتْ أم عسكريَّةً، غيرَ أنَّ هؤلاءِ واجَهُوا عَقَباتٍ كُبرى، إذْ وَجدُوا أنفُسَهم في مُواجَهةِ شَبَكاتِ فسادٍ مُتَرابِطَةٍ عَمِلَتْ على إقْصائِهم لمصلحةِ أشخاصٍ لا يَسْتَحِقُّونَ مَواقعَهُمْ، وهذا ما أدَّى إلى تَصاعُدِ المَحْسُوبيَّاتِ وإقْصاءِ الكفاءاتِ الحقيقيَّة.
وقد أسْهَمَ هذا الفسادُ في تمكينِ أفرادٍ وجِهاتٍ مُعيَّنةٍ مِنَ السَّيطَرةِ على السُّلْطَةِ والثَّرْوَةِ، بحيثُ صارَ الوصولُ إلى المناصبِ العُلْيا في كثيرٍ من المواقع، ولا سِيَّما تلكَ التي تعودُ على صاحبِها بالكَسْبِ المادّيِّ غيرِ المشروعِ، مرهوناً بالولاءِ لهذهِ المنظومةِ، وليسَ بالكفاءة.
وهكذا، احْتُلَّتْ مواقعُ القرارِ مِنَ الجاهِلِينَ والفاسِدِينَ الذينَ أشْبَعُوا أطماعَ مافياتِ الفسادِ المُتَحكِّمةِ بالدَّولةِ، وهذا ما عَمَّقَ مُعاناةَ المُواطنينَ الذينَ وَجدُوا أنفُسَهُمْ في مُواجَهةِ سياساتٍ زادَتْ مِنْ فَقْرِهمْ، وحَرَمَتْهُمْ مِنْ أبسطِ حُقوقِهمْ في الحياةِ الكريمةِ، ونتيجةً لذلكَ، أصبحتِ البلادُ أشبهَ بخَزَّانٍ مثقوبٍ يَعْجِزُ عنِ الحِفاظِ على ما تبقَّى فيهِ مِنْ طاقاتٍ ومواهبَ، في ظلِّ اسْتِنْزافٍ مُستَمِرٍّ للثَّرَواتِ بفِعْلِ الهَدْرِ السِّياسيِّ والعِلْميِّ والثّقافيِّ والاقتصاديّ.
وأمامَ هذا الواقعِ، جرى دَفْعُ الكفاءاتِ إلى الهِجْرَةِ بحجَّةِ أنَّهُمْ سيُرسِلُونَ الأموالَ إلى ذَوِيهِمْ في الداخلِ، دُونَ إدراكِ أنَّ هذهِ الحالةَ منَ الاستهتارِ بكرامةِ الشَّعبِ ستَتحوَّلُ يوماً قُوَّةً ضاريةً تَضْرِبُ كُلَّ مَنْ أسْهَمَ في إذْلالِ الشَّعبِ وتَجْوِيعِه.
لم يَكُنْ سُقوطُ النِّظامِ مَحْضَ حَدَثٍ سِياسيٍّ، بلْ كانَ انهياراً لمنظومةٍ أرْهَقَتِ الشَّعبَ، وأذَلَّتْهُ عُقوداً، غيرَ أنَّ الفرحةَ بزَوالِهِ كانتْ مَقْرُونَةً برَغْبَةٍ عميقةٍ في بناءِ دولةٍ جديدةٍ قائمةٍ على العدالةِ والمُساواةِ، تَضْمَنُ حُقوقَ أبناءِ الوطنِ جميعاً بمُختلفِ انْتِماءاتِهِمُ العِرْقيَّةِ والدِّينيَّةِ والمَذْهَبيَّة، لكنَّ تحقيقَ هذهِ الدَّولَةِ المَنْشُودَةِ لا يكونُ بتغييرِ الأشخاصِ فحسب، بلْ يَتَطلَّبُ إعادةَ بناءِ المُؤسَّساتِ على أُسُسٍ شفَّافةٍ وعادلةٍ، بعيداً عنِ الصِّراعاتِ الأيديولُوجيَّةِ والانْقِساماتِ السياسيَّةِ، فمِنَ الضَّرُوريِّ أنْ تُبْذَلَ جُهودٌ حقيقيَّةٌ لإصلاحِ الاقتصادِ الذي كانَ في ظلِّ النِّظامِ العائليِّ البائدِ يَخْدُمُ الطُّغمةَ المافيويَّةَ على حسابِ الشَّعْبِ بأسْرِهِ، وهذا ما أدَّى إلى تفكيكِ الرَّوابطِ الاجتماعيَّةِ وتَشْوِيهِ الهُوِيَّةِ الوطنيَّة.
إنَّ الواقعَ المُؤلِمَ الذي عاشَهُ السُّوريُّونَ عُقوداً يَفْرِضُ على القادَةِ الجُدُدِ مسؤوليَّةً كبيرةً في الاستفادةِ مِنْ أخطاءِ الماضي، ووَضْعِ آليَّاتِ رقابةٍ صارمةٍ تمنعُ تَكْرارَها، فمُحارَبةُ الفسادِ لا تعني استبدالَ الفاسِدينَ فحسب، بلْ تستوجبُ إصلاحاً هيكَلِيّاً شاملاً يَضْمَنُ قِيامَ مُؤسَّساتِ الدَّولةِ على مبادئِ النَّزاهةِ والعَدالةِ والكفاءةِ، كما أنَّ مُحارَبةَ الفسادِ لا تعني إيقافَ المُوظَّفينَ مِنْ أصحابِ الخِبْرَةِ والكفاءَةِ عنِ العملِ وحِرمانَهُمْ مِنْ رواتِبِهمْ ومن حُقوقِهِمُ الوظيفيَّةِ التي يَكفلُها القانونُ، بل إنَّ الإيقافَ والحِرْمانَ واستعادةَ الرواتبِ المقبوضة، يجبُ أن يكونَ بحقِّ أُولئِكَ المُوظَّفينَ الشَّكْلِيّينَ الذينَ قَبَضُوا الرواتبَ والتَّعْويضاتِ، وحَصَلُوا على التَّرقياتِ والترفيعاتِ دُونَ أنْ يكونَ لهم أيُّ حُضورٍ أو فاعليّةٍ في المُؤسَّساتِ التي كانوا على قُيودِها، ويجبُ أنْ يكونَ أيضاً بحقِّ أُولئِكَ المُوظَّفينَ الذين كانوا يقبضُونَ رواتبَ عدّة من مُؤسَّساتِ الدولةِ، فقط لأنّهُمْ كانوا ضِمْنَ منظومةِ المافياتِ والفسادِ، فالمُجتمَعُ هُوَ انْعِكاسٌ لما تَحْكُمُهُ هذهِ المُؤَسَّساتُ، وكما أنَّ الشَّعْبَ الخاضِعَ للظُّلْمِ يَتكيَّفُ معَ العُبوديَّةِ، فإنَّ الشَّعبَ الذي ينشأُ في ظِلِّ العدالةِ يَتَبنَّى قِيَمَ الحُرّيَّةِ والكرامَة.
يَقِفُ السُّوريُّونَ اليومَ أمامَ فُرْصَةٍ تاريخيَّةٍ لإعادَةِ صِياغَةِ مُستقبَلِهِمْ، فإمَّا أنْ يكونُوا شُرَكاءَ في بناءِ دولةٍ تحترمُ كرامَتَهُمْ، وإمّا أنْ يَظَلُّوا أسْرَى مُخَطَّطاتٍ يَرْسُمُها لَهُمُ الآخَرُون.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر