تحليلات سياسية

دور فرنسا في لبنان.. حاميها حراميها

دور فرنسا في لبنان.. حاميها حراميها…يستطيع السياسيون اللبنانيون أن يقولوا في العلن ما يشاؤون عن المبادرة الفرنسية التي كانت ملتبسة بداية، لكنها اليوم واضحة ببندها الوحيد: تسليم البلد لسعد الحريري والاستخبارات الفرنسية.

منذ التسعينيات، قرَّر الفرنسيون الالتزام بترتيب جديد لعلاقاتهم وأصدقائهم في لبنان، فاستعاضوا عن العلاقات التاريخية المعنوية القديمة بأخرى جديدة

، مثّل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري حجر الزاوية فيها، وكان للمختارة مكانتها الاستثنائية فيها.

كانت فرنسا الأم الحنون للجمهوريّة الثانية بسياسييها وسياستيها الاقتصادية والنقدية وكهربائها وكل بنيتها التحتية:

– شركة كهرباء فرنسا كانت، وما زالت، الشريكة الأولى لشركة كهرباء لبنان، مع ما يستتبع هذه الشراكة من إشراف ومتابعة، وحتى تنفيذ، من شركة كهرباء فرنسا لغالبية مشاريع شركة كهرباء لبنان.

– غالبية المكاتب الاستشارية ومكاتب المحاسبة التي دقّقت في أعمال المتعهدين، من الجسور إلى الطرقات إلى السدود وجدران الدعم وغيره، وقررت أنها تستوفي الشروط ويتوجب على الدولة اللبنانية أن تصرف لها مستحقاتها، فرنسية الجنسيّة.

– بموازاة الشراكة الكاملة بين مصرف لبنان والمصرف المركزي الفرنسي، هناك شراكة كاملة بين شركة طيران الشرق الأوسط التي يرأسها محمد الحوت (الفرنسيّ الجنسية) وشركات الطيران الفرنسية، بكل ما يتضمنه ذلك من صفقات هائلة لشراء الطائرات الفرنسية (سواء كان ثمة حاجة إليها أو لا) وصيانتها.

– شركة “توتال” الفرنسية شريك رئيسي في قطاع المحروقات في لبنان. وقد حصلت على العدد الأهم من آبار النفط اللبنانية، قبل أن تقرر تنفيذ الأجندة الأميركية بتجميد التنقيب.

– غالبية المصارف اللبنانية الكبيرة هي في الواقع مصارف لبنانية – فرنسية.

– غالبية شركات احتكار الدواء والمنتجات الغذائية والسيارات وقطع الغيار والمحروقات والنقل التي راكمت الثروات الخيالية على حساب إفقار القطاعات الإنتاجية اللبنانية هي شركات فرنسية – لبنانية.

– غالبية مكاتب المحاماة الكبيرة، وغالبية المدارس والجامعات والمستشفيات التي أنهكت كاهل المواطن والخزينة على حساب التعليم والاستشفاء الرسمي، نصفها لبنانيّ والنصف الآخر فرنسي.

– فرنسا راعية مؤتمرات الاستدانة المتتالية، بكل ما سبقها وتبعها من طبل وزمر وتهريج يدفع ثمنه اللبنانيون اليوم من لحم ودائعهم الحي.

لم تترك فرنسا قطاعاً اقتصادياً في لبنان منذ الاستقلال إلا وكانت جزءاً منه، وهي دولة الجنسيّة الثانية بالنسبة إلى العدد الأكبر من السياسيين اللبنانيين والوزراء المتعاقبين وموظفي الفئة الأولى والمديرين العامين وجيش رجال الأعمال والمقاولين والمتعهدين وغيرهم ممن لم تسألهم دوائر الهجرة والضرائب عن مصادر أموالهم التي تملّكوا بواسطتها الشّقق الفخمة جداً في باريس.

فرنسا التي تظهر حرصاً شديداً على لبنان واقتصاده، لم تلتفت طوال سنوات إلى الخلل الهائل في الميزان التجاري بين البلدين لمصلحة فرنسا طبعاً، إذ استورد لبنان منها في العام 2018 ما قيمته 748 مليون يورو، وصدّر إليها في المقابل ما قيمته 54 مليون يورو فقط، أي أن العجز في الميزان التجاري بين لبنان وفرنسا الغيورة جداً عليه يبلغ 694 مليون يورو، علماً أن هذا المبلغ هو مجرد صادرات، يضاف إليه أرباح الشركات الفرنسية العاملة في لبنان في جميع القطاعات السابق تعدادها. وبالتالي، تضع باريس في جيب اقتصادها ما لا يقل عن مليار دولار سنوياً، فيما يتذاكى بعض اللبنانيين بالسؤال عما يمكن لفرنسا أن تستفيد منه في لبنان.

لم تكن فرنسا طوال سنوات سوى جزء من المشكلة اللبنانية السياسية – الاقتصادية – الماليّة، وجزء لا يتجزأ من المنظومة السياسية والمصرفية والأمنية والقضائية والاقتصادية والثقافية، فهي في المجتمع المدني اللبناني بجمعياته وناشطيه ومثقفيه وأكاديمييه واختصاصييه أقدم من الـ”Usaid” بكثير وأكثر خبرة.

ورغم ذلك، ما كاد يقع تفجير المرفأ بما رافقه من اختلال هائل للثقة اللبنانية بالنفس، حتى حضر الفرنسي على عجل، بوصفه المنقذ للبنانيين، في ظل اعتقاد البعض أن فرنسا – ماكرون يمكن أن تكون قد أجرت تقييماً جدياً لتجربتها في لبنان، تأخذ موازين القوى الجديدة بالبلد بالاعتبار، لكن مع تراجع الذهول العام بعيد الانفجار من جهة، واتضاح حقيقة التوجهات الفرنسية بعيد التواصل المتنوع مع الفرنسيين من جهة أخرى، تبين أن فرنسا – ماكرون إنما تريد العودة بلبنان إلى زمن فرنسا – شيراك، حين كانت الراعي الدولي الرسمي لاستفراد رفيق الحريري بالحكم القائم اقتصادياً على تدمير القطاعات الإنتاجية، وبيع القطاعات المربحة، ونسف القطاعات الواعدة لبيعها أو تأجيرها بسعر أرخص، بموازاة إغراق البلد في الديون وشراء ودائع اللبنانيين لصرفها على المجالس والهيئات والصناديق والكهرباء.

وسرعان ما اتّضح أن حلفاء فرنسا ما زالوا هم أنفسهم حلفاء فرنسا، كما تم تكريسهم وحمايتهم ودعمهم في جميع المحافل منذ أواسط التسعينيات، من سعد رفيق الحريري (الذي يحمل الجنسية الفرنسية) إلى وليد جنبلاط، مروراً بحاكم المصرف المركزي (الذي يحمل الجنسية الفرنسية) ورؤساء مجالس إدارة المصارف (الذين يحمل غالبيتهم الجنسية الفرنسية) وكبار المديرين العامين والمتعهدين والمقاولين.

وما أخذوا نصفه في المرات السابقة يريدون أخذه كاملاً هذه المرة، ويريدون من الأفرقاء اللبنانيين أن يتركوا للاستخبارات الفرنسية اختيار جميع أعضاء الحكومة اللبنانية. ليس المطلوب هنا إعادة عقارب الزمن إلى العام 2005، إذ بقي الرئيس إميل لحود شريكاً كاملاً في تشكيل الحكومات حتى بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إنما المطلوب العودة إلى أواسط التسعينيات، ليكون سعد رفيق الحريري حاكماً واحداً أوحد، مع من يختاره من شركاء أو مستفيدين أو أزلام.

بكل وقاحة، يقول الفرنسيون إنهم يريدون هذه الوزارة وتلك، كأن تجربة اللبنانيين مع شركة كهرباء فرنسا (شريكة شركة كهرباء لبنان) و”توتال” ومصرف لبنان وشركات المحاسبة والتدقيق بتعهدات البنية التحتية وشركات النقل وغيرها مشجعة جداً، أو كأن الفرنسيين قوة سياسية أو نيابية أو شعبية حتى يتدخلوا بهذا الشكل في تشكيل الحكومة اللبنانية.

إن الاختصاصيّ الجيد بالنسبة إلى الفرنسيين هو الذي تقول عنه الاستخبارات الفرنسية إنه إنسان جيد، والإنسان الجيد، في نظر الاستخبارات الفرنسية، هو الذي يضع مصلحة الفرنسيين والشركات الفرنسية أولاً وأخيراً. لقد عرف اللبنانيون أجيالاً متعاقبة من هذا الصنف من الوزراء والمديرين العامين، وبصماتهم تملأ الوزارات.

في هذا السياق، يستطيع السياسيون أن يقولوا في العلن ما يشاؤون عن المبادرة الفرنسية التي كانت ملتبسة بداية، لكنها اليوم واضحة ببندها الوحيد الأوحد: تسليم البلد لسعد الحريري والاستخبارات الفرنسية، في ظل ربط مؤقت للنزاع مع حزب الله إلى ما بعد الانتخابات النيابية. كان ذلك مضمون المبادرة الفرنسية التي وُئدت في مهدها فور اتضاح حقيقتها، على الأقل بالنسبة إلى فريقين لبنانيين أساسيين.

بعد ذلك، يمكن لباريس أن تفعل ما تشاء من ردود فعل غبيّة سبقها إليها الأميركيون، من دون أن تحقق أية فائدة لهم، ففرنسا، كما يؤكد تاريخها الطويل، وكما أكدت مبادرتها الأخيرة، ليست طرفاً حيادياً، كما أنها ليست طرفاً يمكنه أداء دور المنقذ للبنانيين.

اللبنانيّ نُهبت أمواله ودُمِّر اقتصاده على مرأى ومسمع من الفرنسي الذي كانت شركاته شريكاً للشركات اللبنانية في الكهرباء والمال والمطار والمرافئ والمقاولات وتعهدات البنية التحتية والمشتقات النفطية وغيرها الكثير.

هذا اللبناني يعلم أن فرنسا كانت السند الدولي الرئيسي للحريري الأب والابن ووليد جنبلاط ورياض سلامة وغيرهم، ولا يمكن لفرنسا هذه المحاضرة بالإصلاح أو التفلسف على اللبنانيين، وهو ما يواصل وزير خارجيتها فعله، قبل أن تسأل دوائر الهجرة والضرائب حشود السياسيين والوزراء ورجال الأعمال اللبنانيين عن مصدر أموالهم التي تملّكوا فيها في باريس من دون أن يسألهم سائل: من أين لكم كل هذا!

ظهر الفرنسيون في لبنان في لحظة عصيبة جداً بعيد تفجير المرفأ، عوملوا بموجبها بكثير من الودّ والاحترام والتهذيب، لكنَّهم أساؤوا التقدير حين فهموا اللياقة ضعفاً، واعتقدوا أنَّ الدبلوماسية في التعامل تراجع. عملياً، لن يحصل ماكرون واستخباراته وحليفه ابن سلمان بالسّلم وبعض “التشاطر الدبلوماسي” على ما عجز ترامب وإدارته عن أخذه بالحرب.

 

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى