تحليلات سياسيةسلايد

“دولة” الحاخامات.. يهودية “الدولة” وتهويد القدس

بالإضافة إلى الأبعاد السياسية المتداولة ليهودية “الدولة”، ومحاولة العدو وضع يده على القدس وتهويدها، كمركز سياسي، ثمة بُعد أيديولوجي عنصري لا يقل أهمية، هو فكرة الشعب المختار في مقابل الغوييم.

تنطلق هذه المقاربة من التباين والاختلاف مع ما هو شائع وسائد من انطباعات وتصورات تذهب إلى التمييز بين الصهيونية واليهودية المتداولة، انطلاقاً من تركيزها على الصهيونية باعتبارها الشرّ الأعظم، في مقابل اليهودية، التي يجري تسويقها (خطأً) إلى جانب الديانات السماوية. فإذا كانت الصهيونية حركة سياسية من صنيعة الدوائر الاستعمارية لإقامة كيان استيطاني احتلالي عدواني، من أجل حماية مصالحها شرقي المتوسط، وفصل المشرق العربي عن مغربه، بحسب مقررات كامبل بنرمان، فإن اليهودية ظاهرة أيديولوجية عنصرية، عنوانها المعلن: “شعب الله المختار”.

يشار هنا إلى أن هذا التوصيف كان منتشراً أيضاً عند عشرات الأدباء والمفكّرين العالميين، مثل شكسبير ومارلو وتورغنيف ودوستوفسكي (الأدب الإنكليزي والأدب الروسي، بصورة خاصة) ولدى مفكّرين، مثل ماركس وإنجلز ولوبون، بل إن ماركس ربط بين التحرر من الرأسمالية والتحرر من اليهودية.

و”الشعب المختار” هنا ليس مجرد شعب من شعوب متعدّدة، بل هو الشعب الوحيد الذي يستحق أن يعيش في الأرض ويخلف الرب فيها. أمّا سائر الشعوب والبشر فهم قطعان من الغوييم يساوون الحيوانات، يحلّ قتلهم وأخذ أموالهم وسبي فتياتهم. لقد خلقهم الرب (في الأيديولوجيا اليهودية) لخذمة شعبه “المختار”، سواء أكانوا قبائل أم مذاهب متطورة أم متخلفة. ولذلك، عندما تكرر التوراة الوصايا المعروفة، فالمقصود بها: لا تقتل ولا تسرق يهودياً. وهكذا، بحسب المؤسس الثاني لليهودية، موسى بن ميمون (طبيب صلاح الدين الأيوبي، ومربي أولاده ومستشاره)، فإن الأنبياء لا ينزلون على شعب آخر غير “سلالة داود”، وينطلق من ذلك إلى التطاول على المسيح ورسول الإسلام معاً.

وحيث قامت أوساط في المسيحية بالخضوع للابتزاز اليهودي، مدِّعيةً أن “المسيح هو ابن داود” حتى تتجاوز الإنكار اليهودي، أخذت الاختراقات (الإسرائيلية) للإسلام منحىً آخر، هو منحى التماثل مع اليهودية، وخصوصاً عبر ظاهرة الوهابية وأغلبية جماعات الإسلام السياسي البريطاني ثم الأميركي.

إلى ذلك، وفي دحض العنصرية التوراتية، فإن الأغلبية الساحقة من يهود العالم ليست “شعباً مختاراً”، حتى بالمعنى التوراتي، فأغلبية اليهود الشرقيين (السفارديم) تنحدر من إمبراطورية حمير اليمنية، بالإضافة إلى مناطق عربية أخرى. وأغلبية اليهود الغربيين (الأشكنازيم) تنحدر من إمبراطورية الخزر التركية، وبينهما قاسم مشترك اقتصادي – اجتماعي ناجم عن البيئة الإيلافية، التي تجمع بين التجارة والغزو. فدولة حمير ودولة الخزر نشأتا حول طرق التجارة وازدهارها في ظروف معينة. ومع تراجع أهمية هذه الطرق سقطت الإمبراطوريات، بالإضافة إلى استنزافها في حروب القبائل والإمبراطوريات المنافسة. فتشتت يهود حمير في الجزيرة العربية وأطرافها، وتشتت يهود الخزر الأتراك في أوروبا الشرقية والغربية، قبل أن يجمعهم قلم الاستخبارات البريطانية في المشروع الصهيوني المعروف.

التسويات المشبوهة:

على الرغم من أن اليهودية لا تعترف بمجيء المسيح، وترى أن المسيح المصلوب هو “المسيح الدجال”، ولا تعترف برسالة محمد ونبوّته، ويشكّك مؤسسها الثاني (موسى بن ميمون، مستشار صلاح الدين الأيوبي) في هذه النبوة، فإنها سرعان ما تجمّعت في إقامة علاقات وثيقة بالمحافل المسيحية الكبرى، كما في إقامة تحالف سري قبل أن يتجه إلى العلن مع محميات النفط والغاز المسال والعثمانية الجديدة:

  1. 1. بعد عقود من الصراع الدموي الطويل مع المسيحية (إمبراطورية بيزنطية) والحروب الصليبية التي أبادت كل اليهود في طريقها، واستكملت ذلك عبر محاكم التفتيش الكنسية الأوروبية، أخذت العلاقة منحىً مغايراً، ترافقت مع الثورة اللوثرية ومع انحسار الإمبراطورية الجرمانية وسلطة الفاتيكان، ومع ظهور الدول الملكية على أنقاض هذه الإمبراطورية، وهي الدول المعروفة بدول وستفاليا (اتفاقية 1648 التي كرستها)، فأصبح الفاتيكان وأصبحت الدول الملكية القومية معاً في حاجة إلى القروض والأموال اليهودية، التي تراكمت في أيدي الحاخامات عندما كانت أوروبا المسيحية تحرّم الرِّبا.

وتدفّقت هذه الأموال (في ضوء الإصلاح اللوثري) مع فتاوى البابوات أيضاً، وتحولت رواية (متى) إلى مرجعية بابوية (المسيح من سلالة داود)، وصارت قراءة العهد القديم (التوراة) ضرورية ومصاحبة لقراءة العهد الجديد. وراحت المدرسة الجديدة (المسيحية اليهودية) تخترق تيارات كنسية واسعة، اندمجت في السياسات الاستعمارية للشرق، تحت عنوان غريب من الحملات الصليبية الجديدة، وبصورة معاكسة تماماً للحملات القديمة، والتي اتخذت من معاداة اليهود عنواناً أساسياً لها، بينما أصبح التحالف مع اليهود في الأزمنة الاستعمارية هو عنوان هذه الأزمنة، بل إن بعض المحافل الماسونية، التي كانت ترفض دخول اليهود فيها، سقط منذ القرن التاسع عشر تحت سيطرتهم، وأصبحت الماسونية رديفاً لليهودية والصهيونية في شعاراتها وطقوسها وأخوياتها السرية والعلنية.

  1. 2. أيّاً تكن الالتباسات والتأويلات الأيديولوجية للإسرائيليات عند المسلمين الأوائل، فلقد دخل هؤلاء المسلمون في “معارك سياسية وعسكرية” مع الحصون اليهودية، وستمضي عقود وعقود قبل أن يعود اليهود إلى بلاط الخلفاء والأمراء، ويُشرفوا على أموال العشرات منهم ودواوينهم، وخصوصاً في العهد الأموي وامتداده في الأندلس. بيد أن “العهد الذهبي” للنفوذ اليهودي بدأ مع صلاح الدين الأيوبي وورثته في مصر وبلاد الشام، حين عيّن موسى بن ميمون مستشاراً له، وهو أكبر حاخام يهودي وأكبر شخصية يهودية بعد موسى (الأول).

كان صلاح الدين سمح لليهود بالاستيطان في القدس، قبل أن يعود الصليبيون إلى احتلالها بالتواطؤ مع ابن شقيق صلاح الدين، الملك الكامل الأيوبي، بحيث قام الصليبيون بإبادة كل اليهود في المدينة.

بالإضافة إلى ذلك، وطوال قرون الاحتلال العثماني للشرق العربي، كان اليهود يتوافدون على المدينة وعلى فلسطين، وتمكّنوا، زمن السلطان عبد الحميد الثاني، من بناء عشرات المستوطنات فيما عُرِف بالتواطؤ غير المعلن، حتى لا يؤثر في سمعة السلطان الذي ظل يُنكر ذلك.

يهودية “الدولة” والقدس.. ماذا تعني؟

في ضوء ما سبق، بالإضافة إلى الأبعاد السياسية المتداولة ليهودية “الدولة”، ومحاولة العدو وضع يده على القدس وتهويدها، كمركز سياسي، ثمة بُعد أيديولوجي عنصري لا يقل أهمية، هو البعد المرتبط بفكرة “الشعب المختار” في مقابل الغوييم (الأغيار الذين يساوون الحيوانات)، الذين خُلقوا لخدمة شعب يهوه؛ الشعب الوحيد على الأرض الذي يستحق هذا الوصف، بحسب التوراة.

وعندما تحدث بيريز، وبعده نتنياهو، وأصحاب “صفقة القرن” عن مركز إسرائيلي ومحيط أردني – فلسطيني وعربي، كانوا يعبّرون عملياً عن أيديولوجيا الغوييم العنصرية المذكورة. ففي مقابل المركز الإسرائيلي (شعب الله المختار)، فإن المحيط الأردني – الفلسطيني، عبر أوسلو ووادي عربة وتحضيرات صفقة القرن، هو محيط الأغيار، الغوييم، العبيد والحيوانات المنذورين لـ”دولة” الحاخامات، التي لا تستكمل العلامة المقدسة المزعومة مع “الرب اليهودي”، إلّا عبر فكرة عنصرية أخرى، هي فكرة التطويب المقدس لمركز الأرض والهيكل المزعوم.

إن احتلال القدس وتهويدها ليسا عملاً استيطانياً عدوانياً سياسياً فحسب، بل هما ذروة الأيديولوجيا اليهودية بالفعلين الزماني والمكاني، بين المقدس اليهودي المزعوم والمدنّسات وأعمال الرِّجس الأخرى للأغيار، المسلمين والمسيحيين، على حد سواء.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى