دينا أنور ترصد حياة 24 مفكرا وعالما وأديبا وشاعرا بين التكفير والاغتيال

ترصد د. دينا أنور أفكار ورؤى 24 مفكرا وعالما وأديبا وشاعرا، طالتهم آفة التكفير والاضطهاد والقمع في التاريخ العربي الإسلامي ماضيا وحاضرا، ومنهم من تم اغتياله ومنهم من نجا، فتتوقف بشكل ثنائي لتقارن بين الماضي والحاضر، بين غيلان الدمشقي وفرج فوده، الطبري ونجيب محفوظ، ابن سينا ونوال السعداوي، الجعد بن درهم وباقر النمر، أبو نواس وأحمد ناجي، أبو العلاء المعري ونصر حامد أبو زيد، عباس بن فرناس ويوسف شاهين، ابن حزم وإسلام بحيري، الحلاج وخليل عبدالكريم، أبو بكر الرازي وفاطمة ناعوت، يحيى السهروردي وحسن شحاتة، ابن المقفع وسيد القمني. مؤكدة أن الإسلام السياسي عبر التاريخ لعب دورا كبيرا في تصفية خصومه بطرق وحشية وهمجية لا تعرف للإنسانية سبيلا.

ولفتت في كتابها الصادر عن دار ابن رشد بالقاهرة “24 ضحية بين الماضي والحاضر.. محاكم الدم والفكر” إلى أنه بين الماضي الذي شهد انتقاما وحشيا من كل أصحاب الفكر المختلف، والحاضر الذي شهد – ولا يزال يشهد – تكفيرا وتهديدا بالحبس والقتل لكل من يخرجون بفكر جديد أو رؤى مختلفة لما هو سائد عند من يسمونهم علماء الأمة.

تقول: حاولت أن أدمج القصص المتشابهة بين ما حدث للمفكرين سابقا وما يحدث لهم اليوم من مصائر متباينة أغلبها مأساوي وعنصري، وينم عن خوف المتأسلمين من المخالفين لهم، وضعف حجتهم المعتمدة على النقل من السلف للخلف دون إعمال للعقل ومواكبة متغيرات العصر، لذا يرتعدون خوفا من كل من يتبنى منهج العقل والحداثة ويسعى لنشره بين الناس، فينصبون محاكم التفتيش ويسعون للتخلص من خصومهم، خوفا من تمرد العامة على كهنوت رجال الدين الذي يحصلون من خلاله على المال والسلطة والنفوذ والتقرب من الحكام.

• الدمشقي وفودة

ورأت دينا أنور في تحليها لما جرى لكل من غيلان الدمشقي وفرج فودة أن التعصب الديني الأعمى كان له رأي آخر في قصة غيلان الدمشقي، وكذلك فرج فودة، الأول تم قتله أبشع قتلة في عهد الخليفة الأموي “هشام بن عبدالملك” بعد مناظرته مع الشيخ “أبو عمرو الأوزاعي” الذي أفتى بكفره بعد انتهاء المناظرة. والثاني تم تصفيته من قبل فرد ينتمي للجماعة الإسلامية بعد مناظرة شهيرة خاضها ضد الشيخ “محمد الغزالي” ومرشد جماعة الإخوان المسلمين ود. محمد عمارة، واعترف المتهم خلال التحقيقات أنه تطوع مع زميله لاغتيال فودة بعدما أباح “عمر عبدالرحمن” أمير الجماعة الإسلامية دمه لأنه علماني متطرف قفز بالعلمانية 80 عاما للأمام، ويحمل لواء العداء للإسلام في كتاباته ويرفع شعارات الهلال مع الصليب التي تظهر المسلم و”النصراني” كأنهما متساويان في الحقوق والواجبات.

وأوضحت أن غيلان الدمشقي كان ثاني شخص ينسب إليه مذهب “القدرية” بعد “معبد الجهني” القائل إن الحرية الإنسانية هي أساس محاسبة الله للبشر، أي أن الإنسان يختار أعماله ومن ثم يحاسب عليها، وخالف بذلك مبدأ أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بمذهب “الجبرية” القائل بأن كل ما كان وما هو كائن وما سيكون مستقبلا، إنما هو أمر من الله وقدره، وأن الأفعال مخلوقة ومحتمة ومجبور على العبد أن يفعلها، فكل ما يفعله العبد من عند الله ومكتوب في اللوح المحفوظ ولا تبديل له، إلا أن غيلان رأى أن الباري تعالى حكيم عارف، لا يجوز أن ينسب إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرهم به، وليس منطقيا أن يحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه، فالعبد هو الفاعل للخير والشر، للإيمان والكفر، للطاعة والمعصية، ومن ثَمَّ يجازى على فعله لأن الله أعطاه القدرة على ذلك، وكان يستشهد بالنص القرآني “إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”.

أما فرج فودة فكان يتبنى المنهج العلمي المؤمن بتفوق الأنظمة الليبرالية، وكان يعيب على السادات نمو التيارات الدينية في عهده وكان يسميها “الانتحار الساداتي” والتي ساعد السادات في اكتساحها للجامعات لمواجهة الناصريين واليساريين إلى أن فقد السيطرة عليها تماما ولقي مصرعه على يد إحدى جماعاتها المسلحة، وعارض فودة السادات عند طرح استفتاءً عاما قبل وفاته عام1981 وكان من ضمنه إضافة حرفي الألف واللام للمادة القائلة بإن “مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع “لتصبح” مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر “الرئيسي للتشريع”، واعتبرها فودة تمهيدا لقيام الدولة الدينية، وذكر في كتابه “النذير” عام 1989 أن التيار الإسلامي نجح في تكوين دولة موازية يتمثل اقتصادها في بيوت توظيف الأموال، وجيشها في الجماعات الإسلامية المسلحة، وكيانها السياسي المتمثل في مكتب إرشاد الإخوان المسلمين.

ورأى فودة أن التيار الإسلامي اخترق المؤسسة الدينية الرسمية، متمثلا في دعوة شيخ الأزهر للناخبين لإعطاء أصواتهم للمطالبين بتطبيق الشريعة، ومطالبة جريدة اللواء الإسلامي التابعة للحزب الحاكم للمواطنين بعدم التعامل مع البنوك القومية وقصر معاملاتهم مع البنوك الإسلامية، وكذلك اختراق الإعلام بالمسلسلات والخطب التليفزيونية مثل خطب الشيخ “محمد متولي الشعراوي”،

وقالت “كانت المناظرة مع الخصوم في حالتيهما مناظرات قاتلة، أودت بحياتيهما وتسببت في إصدار الفتاوى التكفيرية ضدهما لتبرير تصفيتهما جسديا. ورغم حدوث المناظرتين القاتلتين في حقبتين زمنيتين مختلفتين من التاريخ الإسلامي القديم والحديث، إلا أن تكرار مشهد العبث بحياة إنسان لمجرد قوته في عرض أفكاره غير المتوافقة مع فكر المغالاة والتشدد والأصولية، يضعنا أمام فلسفة إرهابية تبنتها التكتلات الدينية لا تعترف بقبول الآخر ولا تفسح مجالا للنقد والاختلاف”.

• أبونواس وأحمد ناجي

وفي تحليها لما جرى لأبونواس وأحمد ناجي رأت دينا أنور أن مجتمعاتنا العربية والشرقية والإسلامية التي تنبثق على تعليمات القرآن والتي تنهى عن الغمز واللمز والغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب وإصدار الأحكام المسبقة على عباد الله، تتصدر قائمة شعوب الأرض في نصب محاكم الأخلاق والفضيلة لأفرادها، وتتولى حسابهم على كل صغيرة وكبيرة في حياتهم من دون الله، بل وتصدر أحكاما بالشرف والعفة أو الخلاعة والمجون وخدش الحياء من قبل أشخاص غالبا ما تكون حياتهم حافلة بكافة أنواع الفُجر والفُحش والخلاعة ولكن سرا، وما حدث لأبي نواس قديما ويحدث لأحمد ناجي في الوقت الحالي، هو نموذج حي على فرض الوصاية البشرية، ومحاولة لفرض هالة من الدفاع عن المثل العليا في مجتمعات تفتقر لأبسط قواعد حسن المعاملة والعدالة والخير.

ولم يكن جرم أبي نواس وكذلك أحمد ناجي سوى التعبير عما يدور في خيالهم علنا، والجريمة الكبرى هي أنهما فعلا هذا في مجتمع يحول الخيالات إلى وقائع ملموسة مهما كانت شاذة ومنحرفة، ولكن الأهم أن تبقى تلك الممارسات سرا وغير معلومة للناس.

وأشار إلى أنه بالرجوع لحياة أبي نواس نجد أنه حظي بمكانة مرموقة لدى الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكان يمتدحه بأبيات شعر كثيرة، ورغم ذلك كان يوشي به من قبل خصومه وحساده لدى الخليفة، وكثيرا ما عاقبه الخليفة بالحبس لما يورده في شعره من مجون وخلاعة، وطال حبسه ذات مرة إلى أن عفا عنه الخليفة بسبب شفاعة البرامكة له. وحتى بعد وفاة الرشيد وجلوس ابنه الأمين على كرسي الخلافة، اتصل أبو نواس بالأمين الذي اتخذه نديما، وكان يحب مجالسته وسماع طرائف شعره ومديحه، فاستغل خصوم الأمين ذلك، خاصة في أوج الصراع بينه وبين أخيه المأمون على كرسي الخلافة، فكانوا يعيبون عليه اتخاذ شاعر خليع جليسا له، وكانوا يخطبون في الناس بذلك من فوق منابر المساجد، مما كان يشكل ضغطا على الأمين فيأمر بحبس شاعره، ثم يعاود إطلاق سراحه بعد هدوء الغضب وانشغال العامة بأمر آخر، وهكذا قضى أبو نواس حياته يدفع ثمن أهوائه الشخصية وتعبيره عن ملذاته في شعره، وكان حماة الفضيلة يتربصون لشعره رغم أنهم أحرص الناس على سماعه، وكانوا لا يهنئون بالا إلا وهم يسمعون أخبار سجنه كالمجرمين والسارقين رغم أنه لم يحمل على عاتقه تهمة سوى شعره.

أما أحمد ناجي الذي تم الحكم عليه بالحبس لمدة عامين، وهو الآن أسير محبسه كالإرهابيين والقتلة، ولكن تهمته هي خياله وليس أفعاله الإجرامية فلم يختلف المجتمع المصري الحالي في معاملته كشخص خادش للحياء يشكل خطورة على ثوابت المجتمع الدينية والاجتماعية المحافظة، والتي تميل في أغلبها إلى الشكليات والمظاهر دون أخلاقيات أو سلوكيات حقيقية، وهو ما رصده ناجي في روايته “استخدام الحياة”، وهي رواية تحكي عن ملل شاب يعيش في القاهرة الحديثة قبل الثورة، ويظهر في سطوره العمق في وصف تاريخ القاهرة وعمارتها ونشأة عشوائياتها، ويصف ما آلت إليه العاصمة المصرية من تلوث وقبح، ويستعرض، من خلال رؤية اجتماعية واقعية، تطور مفهوم الرغبة الجنسية لدى الشباب في ظل الظروف الاجتماعية السيئة التي أدت إلى تأخر سن الزواج والبطالة والإحباط، مما أدى إلى انتشار المخدرات والممارسات الجنسية السريعة المتوترة والشاذة أحيانا، مما يرصد ظاهرة مؤكدة عصفت بكثير من شباب هذا الجيل وهي التمزق بين ثقافة الغرب المنفتح المتحرر وثقافة الشرق المتحفظ ظاهريا والمكبوت جنسيا، فتظهر شخصية البطل بوهيمية عدمية، لا مسلمات يؤمن بها ولا روحانيات يعيش فيها ولا انتماء حضاري يعيده إلى الواقع، معبرا عن ذلك بألفاظ عامية قاسية على المسامع ولكنها دارجة في الشارع المصري ولا يخجل الكثيرون من استخدامها على الملأ وأمام الأطفال والنساء، وهو نوع من الكتابة الدارجة في جيل الثلاثينيات من بعد الحرب العالمية الأولى تعرف بكتابة الانحدار والتي نشأت نتيجة تمرد الكتاب الجدد على كافة الأنماط التقليدية للكتابة، وانتشرت في جيل الستينيات عبر حركة سياسية ثقافية تعبر عن الجنس والمخدرات والموسيقى الصاخبة.

• الطبري ومحفوظ

وقالت د. دينا أنور إنه برغم غزارة علم الطبري وتفقهه في الدين ودأبه على نشر علمه ومنهجه باللين وقوة الحجة والبرهان، إلا أنه تعرض لأزمة شديدة في أواخر عمره مع أنصار المذهب الحنبلي الذين اتهموه بالتشيع ورماه بعضهم بالإلحاد، وعاش معزولا في بيته بسبب التعصب المذهبي الذي كان مسيطرا على بغداد حينها وعلى العراق بأكمله.

كذلك نجيب محفوظ واجه ردود فعل عنيفة على روايته “أولاد حارتنا” وكانت سببا في هجوم المؤسسات الدينية عليه والتحريض على اغتياله واتهامه بالتطاول على الذات الإلهية وخروجه من الملة، مما دفعه للتوقف عن نشر الرواية في جريدة الأهرام، ولم تنشر الرواية كاملة في مصر في تلك الفترة، واستغرق الأمر ثماني سنوات حتى خرجت للنور في طبعة دار الآداب اللبنانية عام 1967، وأعيد نشرها في مصر عام 2006 عن طريق دار الشروق.

وأوضحت أنه بالعودة للإمام الطبري الذي بدأت معاناته عندما اصطدم برأس الحنابلة في بغداد أبي بكر بن داود، ووقعت بينهم الضغائن والمشاحنات، وتكلم شيخ الحنابلة في حق الطبري كلاما محرضا ورماه بالرافضية والتشيع، وذكر البعض أنه خاض مناظرة ضده وأفحمه الطبري ولم يستطع الرد عليه وآثر السكوت، مما تسبب في هياج أتباعه وقيامهم بالرد بدلا منه، مما وضعه في موقف محرج وأوغر صدره على أبي جعفر الطبري فعقد العزم على الثأر منه. فلما عاد من لرحلته لطبرستان ودخل بغداد، قصده الحنابلة وسألوه في مسألة اختلف فيها مع إمامهم أحمد بن حنبل حول الجلوس على عرش الرحمن، فكان ابن حنبل يقول بجلوس النبي مع ربه على العرش يوم القيامة للشفاعة، ولكن الطبري كان يرى أن ذلك محال وأنشد “سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس. فما كان من الحنابلة إلا أن قفزوا ورموه بآلاف المحابر، فهرول أبو جعفر إلى داره، فصاروا يرمون داره بالحجارة حتى صارت الحجارة على بيته كالتل العظيم، وركب إليه صاحب الشرطة في آلاف من الجنود ليمنع عنه هياج العامة ويوقف رجم الرعاع لبيته بالحجارة ومحاولة اغتياله بتلك الطريقة الهمجية، ووقف على بيته يوما كاملا حتى أتى الليل وانصرف الغوغاء فأمر بإزالة أكوام الحجارة من أمام باب منزله.

وأكدت أن الأديب العالمي نجيب محفوظ عاش معاناة لا تختلف في قسوتها عن أزمة الإمام الطبري، ولكنها كادت حقا أن تودي بحياته، ففي أكتوبر عام 1995 طعن نجيب محفوظ بالسكين في عنقه على يد شابين موتورين اتهماه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل “أولاد حارتنا”، ورغم أن محفوظ لم ينشر الرواية في طبعة مصرية لسنوات عديدة، وتم منعها من دخول مصر بعد طباعتها في لبنان، إلا أن نسخا مهربة منها وجدت طريقها للسوق المصرية، ولحسن الحظ كتبت لمحفوظ النجاة من محاولة اغتياله ولم يلق مصرعه رغم الطعنة القاتلة.

ونجد تشابها كبيرا أيضا بين شخصية الإمام أبي جعفر الطبري السمحة، وأخلاق الأديب نجيب محفوظ المتسامحة. فرغم ما فعله الحنابلة بالإمام الطبري وشروعهم في اغتياله، إلا أنه خلال محاصرتهم لداره ومنعه من الاتصال بالجمهور عكف في داره وكتب كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وقرأ كتابه عليهم وظل في ذلك حتى مات. وكذلك نجيب محفوظ على الرغم من المحاولة الدنيئة لقتله غدرا، وجلوسه لفترة طويلة في المستشفى للتعافي من أثر الطعنة.

وخلصت دينا أنور إلى أن السؤال الحائر يبقى بلا إجابة: هل نجحت كل محاكم التفتيش تلك عبر الماضي والحاضر خلال التاريخ الإسلامي كله بل والإنساني بأكمله أن توقف الأفكار أو تمنع التقدم أو ترهب العقول؟. وقالت “أظن أن الإجابة معلومة لدى من يهمه الأمر، ولكن البعض يفضلون أن ينطبق عليهم النص القرآني القائل “صم بكم عمي فهم لا يعقلون” سورة البقرة- آية رقم (171).

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى