ذاكرة الحرب

 

النزهه                                                                            

*الحب هو الذي يجعل العالم يدور*

الأطفال يحولون الكارثة إلى شيء مكانه الطبيعي سلة المهملات. ولكن لا بد أن تكون البيئة الحاضنة للاطفال مستعدة لهذا النوع من العلاج في زمن الحرب.العلاج بالفرح وبالنسيان.

أحد الأطفال، وعمره سبع سنوات، كتب رسالة إلى الله يقول فيها: “عزيزي الله… بدلاً من أن تجعل الناس يموتون، ثم تضطر لصناعة بشر جديدين، لماذا لا تحتفظ بهؤلاء الذين سبق وصنعتهم من قبل؟

وطفل آخر، بنفس السن، كتب:

“عزيزي الله… هل تعرف من رسم هذه الخطوط على الخريطة حول الدول؟”

وثالث: “عزيزي الله… قابيل وهابيل، ربما، ما كانا ليقتلا بعضهم البعض، لو أن أباهما أعطى لكل واحد منهما غرفة مستقلة. لقد جربنا ذلك، ونفع الأمر مع شقيقي”.

ورابع: “عزيزي الله… شكراً على أخي المولود الذي وهبتنا إياه أمس. لكن صلواتي لك كانت بخصوص جرو. هل حدث خطأ ما؟”

  *

هذه المختارات… وجدناها في دفتر صغير ملون، أعطانا إياه صاحب المطعم في الزبداني: (ضاحية في ريف دمشق وهي بلدة اصطياف ونزهات مفضلة حطمتها الحرب… شجرا وحجرا وبشر).

كنا قد قررنا، بعد ان توقفت الحرب، الذهاب من دمشق إلى “الزبداني” لأول مرة.

كان إحساسنا بالطمأنينة ناقصاً. فالطريق إلى هناك حفرته جنازير الدبابات، وعلى يمين ويسار الطريق لا يوجد سوى الأشجارالمقطوعة أو المحروقة، أشجار الكرز التي تشتهر بها تلك البساتين، وأشجار الجوز والتين… التي لم يبق منها إلا ما تدل عليه ذاكرتنا ، حين كانت الخضرة تغطي كل متر مربع من الأرض، حول مجرى نهر بردى ، الذي يدخل دمشق بسبعة أنهار فرعية.

كنا عائلتين نخرج للمرة الأولى إلى هذه المناطق التي كانت مسرحاً للحرب بين المسلحين والجيش السوري. كان عدد السيارات قليلاً في الطريق. كان عدد زبائن المطعم قليلاً. وكان احساسنا مزيجا من الخوف الرغبة في تجربة الامان بعد النجاة من 7 سنوات حرب .

وفي زمن مضى، قبل الحرب، كان صعباً العثور على كرسي ،في هذا المطعم، دون حجز مسبق.

المشكلة في صناعة الفرح… أن المكان هو شخصية رئيسية في هذه الصناعة. فنحن البشر لا نشبه العصافير،التي تغرد في قفص مجاور لمحل “باربكيو” تفوح منه رائحة شواء زملائها.

المكان الذي ألفناه سابقاً وهو يقدم الموسيقى والغناء مع الطعام.

المكان الذي تسمع فيه جدول ماء يحاول أن ينقل البرودة إلى قدميك تحت الطاولة.

المكان الذي يشيع الحب والسلام وقرع كؤوس الخمر.

المكان الذي تتطاير فيه ضحكات الفرح الإنساني كالأجنحة.

المكان الذي لا تستطيع أن تنسى فيه أصدقاء الزمن الماضي… الذين رحلوا أو قتلوا أو اعتقلوا أو خطفوا.

لكن، مع ذلك، ثمة أولاد يتمرجحون في أرجوحة يبدو أن صوت أزيز حديدها الصدىء … يدل، في نغم حزين، على سبع سنوات من الإهمال، هي زمن الحرب السورية. أولاد يعيدون، في فرحهم، وضحكاتهم، سيرة الحياة من أولها: الضحك، ثم الضحك دائماً، والبكاء أحياناً.

أما قصة الدفتر الذي أعطاني إياه صاحب المطعم فهي بسيطة. لقد وجده في مخلفات الأنقاض، في كيس من النايلون. وقد خصّني به لأنني كاتب.

كان الفضول تجاه الدفتر يدفعني لقراءة صفحاته، ونحن نحتسي البيرة، ونستعيد طعم الشواء في أسياخ اللحم، الطعم ليس بمذاق الان ،بل الطعم القديم في الزمن.

ولمشاركة زملاء الرحلة  فتحت الدفتر وقرأت لهم:

حين طلبت معلمة الصف من تلاميذها الصغار (بين 7 ـ 10 سنوات) تعريفاُ للحب. كتب أحد الأطفال:

“عندما يحبك شخص ما… فإنك تشعر بأنه نطق اسمك بشكل مختلف عما ينطقه بقية الناس. إنك تشعر

بأن اسمك بأمان في فمه”.

وفي صفحات أخرى: “الحب هو ما يجعلك تبتسم، حتى وإن كنت متعباً للغاية”.

……..

لقد عدنا من تلك الرحلة بسلام… وهو السلام الذي لم يكن ممكناً أبداً في ظلال القذائف. كانت الهدية الأجمل، هذا الدفتر الذي يبدو أنه يخصّ شخصاً تعوّد الانتقاء مما يقرأ، ويكتب ملاحظاته المتنوعة من صفحة إلى أخرى. أفترض أن صاحبه افتقده ، ففي هذا النوع من الذاكرة يجلس الزمن ويقلب الصفحات ويبحث عن المفقودين.

سأفترض ان صاحب الدفترنجا من الحرب مثلما نجونا.ولهذا سأوجه اليه رسالة على الفيس بووك أعلمه عن وجود دفتره معي ، ليصل إليه، ذات يوم ، إن كان حياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى