لطالما أبهرتني تلك الطريقة التي يحمِلُ بها الزمنُ أيامنا ويمضي بها مُسرعاً على درّاجته التي لا تكفّ عجلاتها عن الدّوران، إلّا أنّني اكتشفتُ مؤخّراً بأنّ لذاكرتي طريقةً عجيبةً في التعامل مع تلك الدّراجة لم أكن قد عرفتها من قبل، وهي أنني لا أستطيع استذكار الذكريات المحزنة بنفس الطريقة التي أستذكر بها الذكريات السعيدة، كما لو أنّ هناك شخصٌ ما يقوم بفرز تلك الأحداث بعناية ثمّ وضعها في صناديق مغلقة مختلفة عن بعضها البعض.
ربما تكون تلك الطريقة هي إحدى الآليات التي تتكيّف فيها درّاجات الزّمنِ مع تعرّجاتِ الطرق وعثراتها لأجل أن تبقى متوازنة، وربما تكون إحدى المَقدِرات المتأصّلة في نفس المرء منذ الطفولة.
حقيقةً لا أعرف السبب تماماً، إلّا أن كل ما أعرفهُ هو أنّ ذاكرتي لها القدرة على الاحتفاظ بقسمٍ من الصور بدقّةٍ وكفاءة عاليتين، بينما تغبّش القسم الآخر الذي يبدو بأنّهُ لا يروقها.
فبينما أجدُ نفسي أستطيع تذكّر أدقّ تفاصيل ما مرّ بي من ذكريات جميلة ومُفرحة وبرّاقة؛ أجدُ نفسي عاجزةً عن ذلك فيما يخصّ أي أمر سيء أو مؤلم أو بشع كما لو أنّه ظلّ أسود لا أستطيع استشفاف أكثر من حدوده الخارجيّة المبهمة.
وإنّ في عدم رؤيتي لتفاصيل تلك الذكريات لا يعني بأنّني أضعها على رفٍّ النسيان؛ فالنسيانٌ أمرٌ أعقد من أن نستطيعُ التحكّم به وجعلهِ فعلاً إراديّاً، إلّا أنّها جميعها تُثير في داخلي الشعور ذاته كمزيجٍ من الألم والمرارة والحزن، وذلك ما لا يحدث بالنسبة للنوع الآخر من الذكريات فهناك مئةُ شعور وشعور يعتملُ في داخلي بينما أُقلّبُ ألبومات الذكريات الجميلة في رأسي وأنا أضبطُ نبضات قلبي على إيقاعها كما لو أنّها تحدث الآن!
غريبةٌ هي ذواكرنا كيف تعمل وكيف تنتقي الأحداث التي ترغب بتخزينها..
ذكرياتٌ تبدو واضحةً مضاءة.. وأخرى غامضةً عاتمة..
ذكرياتٌ تطفو على السطح بحيث نستطيعُ استعادتها وقتما نشاء..
وذكريات أخرى تُركَن إلى زاوية أحد الأقبية فلا تخرجُ منها إلّا بعد أن ننادي عليها طويلاً.. وأمّا كلُّ ما لا ترى الذاكرةُ بأّنه أهلٌ لأن تُبقيه في متحفها البديع ذاك؛ فإنّها تُتلِفُهُ دون أدنى شك.
ربما لا أملكُ ذات الممحاة التي تحدّثَت عنها غادة السمّان حين قالت: ربحتُ جائزة اليانصيب الأكبر في العالم؛ وفوجئت أن اسمها “ممحاة النسيان”.
إلّا أنّني سعيدةٌ جدّاً بالنوع الآخر الذي اكتشفت بأنّني أملكهُ مؤخّراً، فأنا لستُ ممّن يتلهّفون لأن يحظوا بجوائز اليانصيب الكبرى، سيّما أنني أؤمن بأنّ تلك الكتلة المتحرّكة المجبولة بالمشاعر والتي تُدعى “الإنسان” لا بدّ وأن تتكوّن من خليط متنوع متجانس يجعل منها ما هي عليه، فلا بأس ببعض الذكريات المؤرّقة من حين لآخر، إلّا أنّ الاستغراق في تأمّلها لوقت طويل يجعلنا نغرق في رمالِ الماضي المتحركة فنبقى عالقين في قاعها دون أن نعيشَ حاضراً أو نترقّبَ مستقبلاً.. وهذا هو بالضبط ما لا يجبُ علينا الوقوع فيه!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة