ذكرى صديق
ذكرى صديق…لا يتأخر أبداً…ذاك الذي لا ينتظره أحد
_________________________________________
في هذا العالم شيء حقير اسمه”الحرب”. ولكن يوجد في هذا العالم ما هو أخطر وأحقر من الحرب اسمه “الاحتراب”.
لن أبتعد كثيراً في التفسير. إنني أقصد هذا الصراع الخفي والصراع المكشوف في داخل الإنسان العربي. كيف ينجو أحد ما على هذه الأرض الشاسعة من انتسابه إلى اثنين ، حتى يكاد ينشطر، بين ما يريد وما يراد له. بين الاعتراض على الشيء والتحالف معه، بين أمله وفشله؟
الإنسان العربي “حرب جاهزة” على وشك الأنفجار!!
“والاحتراب” هو مسودة الحرب. على الأقل من وجه الشبه في انتشار وتعبئة توتر أعظمي في الحياة اليومية العربية جراء مشاكل بمستوى جمع القمامة نظامياً دون التسبب في خلطها مع النظافة.
……………
إنني أتذكر الصديق الراحل “عقبة الصالح” وكان يؤدي الخدمة الإلزامية السورية في لبنان. ننتظر عودته أسود من الشمس. معفراً من غبار انتظار المعارك. متذمراً من سكوت العرب على احتلال العاصمة الثانية…بيروت، بعد عاصمة أرواح العرب…القدس. يقول بطريقته التعميمية الساذجة أحياناً “نحن العرب صنّاع هزائم” وأصدّه بقولي : “التعميم لغة الحمقى” فيضحك قائلاً: “هذا تعميم أيضاً”.
كان عقبة يهرب من لبنان سلعة واحدة فقط: زجاجتي فودكا أسبوعياً. نحتسي فيهما بوشكين وليرمنتوف ونشتم الديمقراطية المركزية والحزب الطليعي.
ما إن انتهى عقبة من العسكرية حتى حزم حقيبته ووضع فيها كتابين واحد عن نمط اقتصاد آسيوي، وكتاب آخر عن الاستبداد الشرقي…وذهب إلى باريس.
كان مشروعه أن يدرس، ويكتب، وربما كان مشروعه الحقيقي والأساسي هو التخلص من “الزريبة” الحيوانية التي نحن فيها. ومضت سنوات لم أره خلالها، حتى جاء ذات يوم إلى دمشق متأبطاً أعداداً من مجلة أصدرها في باريس باسم ” القرار”.
كان عقبة يراهن على استدراج مستثمر عربي معاق، أو مغفل يحلم بالشهرة بأدوات بسيطة متوفرة هي المال الأسود. ولكنه سرعان ما اكتشف أن الجهات الداعمة، والتي تفتح أبواب الشهرة والثروة… هي في مكاتب أجهزة الأمن، ومقرات النفط العالمي.
فالمجلة العربية، أيضاً بنظر الحكومات، هي احتيال تهريب الشغب والمعرفة وسياسة الخنادق والبنادق. المطبوعة العربية ما تزال دون مستوى النشر، لأنها تراقب قبل الذهاب إلى الشيء الذي سعت إليه، وهو النشر.
ونحن نتمشى في الشانزليزيه قريباً من مكتبه قلت له: أين أنت من خريطة المشروع…؟ قال: أعتقد أنني مستمر. وقد استمر… حتى قرر قلبه التوقف وهو يكتب آخر أوهامه في الاقتصاد العربي.
كانت باريس في نيسان/ إبريل مثلما يعرفها زوارها…مدينة أزهار وأطيار وألوان وبرودة مساء. وسألت عقبة الصالح إن كان سعيداً؟ قلت له: باريس مدهشة أكيد. ولكنني أعتقد أن الإنسان لا يعيش فقط كي يندهش!!
لعقبة طريقة في رؤية الأشياء. شبيهة بالاسم الذي اختاره لمجلته: “القرار”. طريقة تأمل الأحداث، ولكن دون إطالة النظر في الخلفية حيث يوجد في الفناء الخلفي للمنزل ووراء أشجار حديقته… قاتل محترف بمنظار وبندقية قناصة. وهكذا…لم يكن سعيداً رغم ضحكته المجلجلة والساخرة.
ثمة شيء “جنائي” في الاقتصاد. وهو بالطبع متوفر بغزارة في السياسة. ولا مناص من التسليم باستمرار هذا الطابع الجنائي، لأنه انوجد مع أول تسعيرة وضعت نقداً مقابلاً لأول سلعة بدلاً من المقايضة. كانت اللغة التي يكتب بها عقبة مادته الاقتصادية في مجلته الاقتصادية…تبطّن جفاف الحقائق بسخرية خفيفة تتجلى في بعض العبارات والجمل المنتمية إلى عالم الأدب. وفي الحقيقة إلى عالم السوق السوداء العربية ضمن السوق المتوحشة العالمية… هجاء ومعلومات!!
عاد عقبة جسداً في تابوت ليدفن تحت شجرة تين هي أفضل ممثل لاقتصاد المعيشة إلى جوار أضرحة فقيرة قديمة ومعشبة.
إن “الاحتراب” لم يختف من صدر الرجل الذي عاش في باريس ربع قرن، ثم قرر احتلال الأمريكيين للعراق أن يضيف نوعاً سرياً من الضحايا… هؤلاء الذين لم تحتمل قلوبهم الرصاص الموجه إلى قلوب العواصم.
ها هي العاصمة الثالثة تسقط. وسيكون على لغة العامة أن تواجه المصير نفسه كل مرة.
“التعميم لغة الحمقى” حتى إشعار آخر. لأن العرب صنّاع هزائم”.
هذه الكلمات المكتوبة عام 2003 كانطباع على أثر العودة من جنازة هذا الصديق…لها تتمة أحذفها هنا إكراماً لفداحة ما جرى لاحقاً في كل العواصم العربية.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة