ذكريات الطفولة

فجأة نفض النسيان غباره عني وأعادني بالذاكرة إلى أيام طفولتي، إلى أيام خلت ومضت كومض البرق. هي لحظة خاصة جداً أعيشها الآن، لحظة تعيدني إلى سنوات بعيدة جداً ، حاولت ركوب قطار الذكريات طالباً العودة إلى المحطات الأولى في حياتي، والتوقف عند المحطات القريبة التي توفر لي قدراً من الأمان النفسي، و أجمل ما في التقدم بالعمر أنه يجعلك تستصغر أموراً كثيرة كانت تستهلك طاقتك ومشاعرك يوماً ما !

كم جميلة هي ذكريات الطفولة، فالجميع لديه تلك الذكريات. إنها حالة من الحنين تداعب مشاعرنا وجزء لا يتجزأ من ذاكرتنا ، فلا أحد يستطيع اختراع طفولته أو شراءها من محلات لبيع الألعاب !

سأعود إلى خزان الذكريات وبراميل الذاكرة قبل أن يجف ماؤها وتموت خلاياها، أنفض الغبار عنهما، فكم هي الصور والمشاهد التي تختزنها ذاكرتي ، فأنا لا زلت أحتفظ في سجّل ذاكرتي مرحلة طفولتي ، التي لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة ،إنها منقوشة على رخام المخيّلة لا تقوى عليها السنون، هي قدر لا مفّر منه، هي حالات شعورية تداعب عواطفنا وأفكارنا !

سأعود إلى دفاتري المحشوة بالذكريات العتيقة ،أتكئ عليها وكأن حديثاً ووشوشات تدور بيننا ! تشققات الجدران في أركان بيتنا تروي حكايات قديمة ، جديدة، متجددة لرحلة البناء والدفء والحنان، خيوط العناكب تقرأ شيخوخة الجدران والنوافذ والأبواب!

أنا لا أختلف عن أي شخص في هذه الدنيا إلا في كوني أبقيت الطفل الذي في داخلي على قيد الحياة، فأقول كل ما أتذكره وأفكر به ! كانت أيام طفولتي ناعمة، ترعرعتُ في عائلة تحترم القيم والوفاء ، شقتّ طريقها بالجهد والتعب والاعتماد على الله أولاً وعلى نفسها ثانياً وأخيراً !

كنا صغاراً نلهو ونلعب ولا ندري ماذا تخفي لنا الحياة في الأيام القادمة، كنا نلهو بالحياة ، دون أن نعلم أنّ الحياة ستلعب بنا عندما نكبر! ترسّخت حارتي في عقلي وقلبي وعيني ، كان الطعام يسكبه الجار لجاره، الجيران يتعاطفون ، فرح واحد يخص الجميع ، والحزن مشترك ، النسوة يعرن المصاغ الذهبي في المناسبات دون خوف من استغلال أو سرقة أو إنكار ، الرجال يحافظون على أعراض نساء الحارة كأعراضهم ، الأرملة والفقيرة لا تعرف من أين تأتيها شوالات السكر والرز، وتنكات الزيت والسمن، ولوازم واحتياجات البيت والأولاد ، يا للأسف الحارة الآن فقدت هويتها وأخلاقها !

رافقت والدي ..يدي الصغيرة ضائعة في كف أبي يقبض عليها بقوة خوف ضياعي في زحام المارّة في الطريق ..أخذني المصور من يدي وأجلسني على بقايا كرسي خشبي بارد ، تودد إليّ بلطف ، أشار إليّ بالنظر إلى إبهام يده قرب فتحة الكاميرا ، قائلاً لي :اضحك، ابتسم ..لا أعرف كيف أبتسم، أنظر إلى أبي ، أستأذنه ثم أعاود النظر إلى إبهام المصور الذي مازال يصرّ عليّ أن أبتسم فأجدني أكشّر وكأنني أبتسم ، صرخ في وجهي، حبست أنفاسي ،غرقت في صمتي ، تلعثمت وضاعت مفرداتي مني، وأخيراً أدخل رأسه في كيس أسود والتقط الصورة كيفما كانت!

فجأة يستيقظ في ذاكرتي مدرستي التي بدأت أتعلم فيها حروف الأبجدية ، أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة ، حيث أوصلني إليها والدي رحمه الله، كان يوماً مميزاً في حياتي وذاكرتي. كنت خائفاً إلى درجة الرعب ، كنت طفلاً نحيلاً كشمعة تنوس حتى لتكاد تنطفئ مع كل هبة ريح ، وكان الاحتماء في حضن والدي ووالدتي يقي هذه الشمعة الانطفاء !

منذ اليوم الأول لدخولي المدرسة بدأت بحفظ بعض الحروف ،وعندما وصلت المنزل سألني والديّ عن المدرسة وما فعلتْ. رحتُ أُخرج اللوح الصغير لأكتب عليه بعض الحروف الممزقة ، وأبدأ بكتابة الحرف الأول “أ” الذي كان يميل كلما حاولتُ تجليسه فأضطر إلى إمالة اللوح ، أو إمالة رأسي ليجلس الحرف واقفاً ! ثم أكتب الحرف “ب” فإذا نقطة كبيرة.. ولم تكن الأحرف التالية التي كتبتها بأفضل من الحرفين الأول والثاني !

قامت المدرسة بتنظيم رحلة إلى منتزه ،وطلبت المعلمة من كل تلميذ خمسة عشر قرشاً للاشتراك في الرحلة. صممّت عدم الذهاب لكوني لا أملك هذا المبلغ الكبير! في اليوم التالي سألتني المعلمة لماذا لم آتي بالمبلغ الذي طلبته مني ، امتنعتُ عن الكلام وبقيتُ صامتاً،عبثاً حاولت المعلمة أن تجعلني أتكلم ، فلما اتخذ سكوتي صفة التحدي تناولتْ المسطرة وضربتني على أصابع يدي بعد أن تمرّدت بفتح كفي ، فقد كان الضرب الخفيف مسموحاً في تلك الأيام ! أنا لم أبك، ولم أجب أيضاً! لكن زميلي طلب الكلام ،وبعد أن أذنت له قال بصوت سمعه جميع التلاميذ : بأنني لا أملك هذا المبلغ ،ارتعشت لهذه الفضيحة ،عندئذ فقط انهمرت الدموع من عيني كمطر مفاجئ من أثداء غيمة حبلى ولدت بعد المخاض، جلستُ في مقعدي وقد اسودّتْ الدنيا في وجهي ، رنّ جرس الفرصة ، خرج التلاميذ وبقيت في مقعدي وحيداً ،راحتْ الأفكار تجول في رأسي ، وقررتُ أن أغادر المدرسة فلا أعود إليها .. أذهبُ إلى البراري ..إلى المقبرة حيث يستريح الراقدون ..التلاميذ يلعبون ويمرحون في باحة المدرسة ..ويعاركون ويتراشقون بالأقلام والصواريخ الورقية …وبقيتُ وحيداً في الصف .. دخلتْ المعلمة التي عاقبيني إلى الصف ، فوقفتُ لها احتراماً دون أن أنظر إليها ، وبقي رأسي منخفضاً ، نادتني وكررت النداء، فلم أقو على الامتناع ، خرجتُ من مقعدي واقتربتُ منها ، جذبتني إليها وداعبتْ شعري ،ثم انحنتْ وقبلّت رأسي ، فشممت رائحة امرأة غير رائحة أمي ! قبلاتها مسحتْ ما تبقى من أثر الضرب على أصابعي ، قالتْ لي ملاطفة : يا صغيري ، كم أنت حساس ولطيف ، فابتسمتُ وعدتُ إلى مقعدي !

يوم كنا صغاراً، كنا خليطاً من الذكور والإناث ، تجمعنا هموم اللعب والعبث ولا شيء آخر. كنت لا أحب الشتاء لأنه يحرمني من اللعب مع ابنة الجيران! تلك الطفلة التي كنت أداعبها تتحول مع الأيام إلى فتاة باهرة الجمال يتنافس الشباب على جذب اهتمامها ، وسهام الحب قد حسمت المنافسة حولها لأحد أقربائها ! أوقات جميلة اقتطفنا من أشجارها أجمل ثمار عمرنا ! ليت عجلات الزمن توقفت عند تلك الأيام ، ليتها تباطأت ، أو زحفت في سيرها كزحف السلحفاة، علّها تأخرت فلا تصل بنا إلى ما وصلت إليه اليوم، البنات صرن صبايا فاتنات ، الفتيان صاروا شباباً يزرعون الحي ذهاباً وإياباً ، بانتظار إطلالة منهن تؤرق ليلهم ، أو ابتسامة توّرد أحلامهم ،أو قبلة تنام على شفاههم ، وهنّ فقد بخلن بنظرة ترميهن عليهم ، أو ابتسامة على شفاههن ، أو تحية خجولة تهزّ بها رؤوسهن !

إنه الحنين والشوق إلى بيتنا ،إلى تلك الشتاءات الباردة ، حيث كنت أعيش في غرف جدرانها من الطين وسقوفها مدعومة بالخشب. كانت هذه الغرف آمنة من أمطار الشتاء ، تدفئها مدفأة تعمل على الحطب، تستريح في زاوية الغرفة، تشعلها حنان الأم لساعات قليلة في اليوم ! ما زلت أذكر فرحتي بالشتاء حين كنا أطفالاً نتشارك في الفراش وفي اللهو، ندخل تحت اللحاف والبطانية جاعلين منهما خيمة نتضاحك تحتها حتى يأخذنا الدفء إلى مملكة النوم! أتذكر الخزانة القديمة التي كلما فتحت بابها هبت رائحة الزمن القديم ، صوت صريره يكرر صيحات أزمنة بعيدة أخرى، أشياء كثيرة نكدسها فيها وفي بيوتنا ونؤجل موتها يوماً آخر!

أستعيد ذكرياتي اللطيفة..إنه الحنين إلى طفولتي وشبابي، إلى أيام العيد حين كنت أرتدي ثوب العيد اليتيم الذي كان لأخي الأكبر بعد أن ضاق على جسده. أحمل حذائي الجديد ،أنام وأنا ممسك به وأضعه تحت وسادتي إلى أن يستيقظ صباح العيد تشوقاً إلى لبسه في ليلة العيد حيث جفاني النوم وأصابني أرق شديد، تقلّبت على فراشي طويلاً مع أنني كنت بحاجة إلى النوم ، كان رقادي خفيفاً، طافياً ، تكفي النسمة كي توقظني ،لكن النسمة حين توقظ إنساناً تبعث فيه شعوراً بالراحة !حينها استيقظت باكراً بينما كان الآخرون يغطون في نوم عميق مستسلمين لأحلامهم ! أمضيت شبابي أنهل العلم الذي حرص والديّ على أن أنعم به مع أخوتي، بدأت رحلتي المضنية وراء العمل خلال سنوات الجامعة الخمس ،اشتغلت فاعل بأجر يومي وحملت أكياس الرمل والاسمنت، وكم كنت أشكو من تشقق كفي من الاسمنت والرمل والحجارة !

إنه الحنين إلى أيام دراستي الأولى، إلى صوت جرس المدرسة وعذوبته، إلى حياتي الجامعية، إلى أول وظيفة عمل ، إلى رغيف خبز ساخن يخرج من التنور، إلى البقالية التي كنت أقف بجانبها ، إلى الطريق الحجري الذي كان يسكن بجوار بيتي، إلى حارات وأزقة كبرتُ فيها ودفنت شقاوتي، إلى صاحبة النظرة الأولى التي قطفت بكارة حبي ، إلى بداية زواجي ، إلى نشأة أولادي ، إلى حارتي وبنات جيراني …عايشت الطبيعة البكر ! زهور الياسمين التي تتفتح في سكون الليل ! لم أتجول في الجبال والسهول فحسب بل تجولت أيضاً في دروب الفكر ومنعطفاته ! مررت بأنواع من العواطف والانفعالات ، فعرفت مرارة الحياة كما عرفت حلوها ، وذقت الفقر ، كما ذقت بعض الغنى ، وعانيت الآلام كما عانيت اللذة ، وعرفت الإيمان وطمأنينته في القلوب !

ما زلت أذكر البلدة التي ترعرعتُ فيها حيث نمضي الصيف ، وحيث غابات الصنوبر وما حبلت به الأرض من أشجار وأزهار، كيف كنا وإخوتي نحمل الماء والأحجار والاسمنت لإعمار بيتنا المتواضع، ولطالما نزف الدم من أصابعنا ، فامتزج بعرق التعب والوجع ليبقى لنا بيت نأوي إليه في فصل الصيف ، كنت في بيت واحد مع والديّ وإخوتي في حارات دمشق العتيقة، وأصبحنا أشلاء بعيدين عن المدينة وخلف ظهرها في ريفها !

عشت مراهقتي الأولى .. وبدأت أكتب يومياتي وأفرغ من خلالها بعضاً من مشاعري ..بعد أن تزوجت لم أقم بحرق تلك المذكرات والأسرار بل اطلعت رفيقة دربي عليها ، والتي لعبت دوراً كبيراً في زيادة الثقة والشفافية بيننا من جهة، وعلى حجم مشاعري الدفينة من جهة أخرى ،وهذه الذكريات تشكل نبعاً لجيل لا يزال يحاول إتمام قصته ، إنها سيل من المشاعر والخواطر والعواطف، لم يخفق قلبي بكامل قوته إلا للحب الأول !دخلت مرحلة الزواج وأنجبت خمسة أبناء، بنتان وثلاثة
أولاد !

ساقية ذكرياتنا تمّدنا بالكثير من الأحداث التي جرت معنا ، لكن مخزون تلك الذكريات لا يستطيع أن يخبرنا أين سنفارق الحياة !! صور وأحداث مخزنة في دماغي ، وفي مخزن ذكرياتي ،هذا المخزن الذي يحوي آلاف الملفات ، منها ما أفتحه كل يوم ومنها ما أتجاهله ، ومنها ما أتنمى التخلص منه ! منها ما هو جميل، ومنها ما هو مؤلم ! إنه شعور خفي يأتينا دون تخطيط مسبق ،إنه شعور ممتع وجميل ، نتصفح ذاكرتنا فيلسعنا الحنين ، ذلك الندى الذي تبتل منه أرواحنا، فتمنع تصحرها!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى