ذكريات تتوارى عند الاصابة بالخرف في ‘تلال الأكاسيا’

حين يتقدم العمر وتزحف أعراض الشيخوخة وتضعف القدرة على الفعل لا يبقى للمرء سوى الذكريات يلوذ بها من وحشية الأيام ويتغلب بها على فقدان من رحلوا وتركوه في هذه الدنيا، لكن ماذا يحدث عندما يطول العمر وتتوارى الذكريات رويدا رويدا.

وفي رواية “تلال الأكاسيا” للمؤلف المصري هشام الخشن تبدأ المعضلة من إصابة البطل بمرض “ديمنتيا” أو “الخرف” لتقودنا إلى الكثير من الأسئلة والقضايا الحياتية المزمنة مثل الصراع بين جيلي الآباء والأبناء والصدام الفكري بين الشرق والغرب والحيرة بين صوت العقل ونداء القلب. ويبدأ المؤلف روايته بمشهد قاس -ربما مهد به لمآس أشد تالية- فالبطل “المسن” يجلس في أحضان حبيبته (سارة) ينعمان بدفء حبهما في خريف العمر حين تطرق الشرطة بابهما لانتزاعه عنوة بوصفه “فاقد الأهلية” بحكم القضاء وأنه “محجوز ضد إرادته” عندها.

وحينها تتبدد أمنيات البطل التي حدث بها نفسه يوم علم بحقيقة مرضه قائلا “منذ ذلك اليوم أصبح شاغلي الأوحد هو التأكد من أن آخر ما ستسجله ذاكرتي التي قررت أن تنسحب وتتوارى سيكون حلو المذاق. وقت أن تعلن ذاكرتي تمام انسحابها سأستحيل جسدا أتصوره هامدا مستسلما لا جدوى له سوى الاستمرار في التنطع على هواء أرض ملأها وملأته صخبا وحياة لفترة طويلة”. ويضيف “أنفاس أثبت بها أني حي وإن كان الأجدر أن أتركها لمن بهم قدرة على تسجيل لحظاتها والشعور بدبيبها بداخلهم وحولهم وإيداع لحظات مرورهم فيها في خزائن أذهانهم”.

يعود البطل -والذي يخفي المؤلف اسمه طوال العمل- إلى بيته مرغما لتبدأ الذاكرة في مناورته بهيئة “ومضات” تلمع من حين لآخر أثناء حديثه إلى حفيدته الوحيدة (نانسي) التي اقتربت من سن الثلاثين وكانت في طفولتها أول مصدر للصدام بينه وبين ابنه سامي. الابن (سامي) اختار أن يكون طبيبا ويبتعد عن مجال أبيه رجل الأعمال. ويحب (سامي) فتاة إنكليزية وينجب منها (نانسي) خارج إطار الزواج ثم يأخذ الطفلة ويهرب بها إلى مصر لتعيش مع الجد والجدة بزعم عدم رغبته في تنشئتها على العادات الغربية ويستأنف هو طموحه العملي في ألمانيا. لكن الجد يعيد الفتاة إلى أحضان أمها رغم ارتباطه الشديد بها. ويضمرها (سامي) في نفسه.

“ومضة” أخرى تحمل غصة أخرى في نفس البطل هي ابنته (نور) التي اختارت الزواج من رفيق دراستها (طارق) ليكتشف الزوجان لاحقا إنهما غير قادرين على الإنجاب فيتزوج (طارق) من امرأة أخرى ويرفض طلاق زوجته الأولى. ويتدخل الأب بحكم ماله وسطوته لإيقاع الطلاق فينكسر قلب (نور) لكن الأب وبطريق غير مباشر يعود من جديد لشراء ذلك الزوج السابق بالمال ويدفعه للعودة إلى (نور) بهدف إسعادها.

ووسط تلك “الومضات” تطل (سارة) تلك الفتاة الصهباء سليلة الطبقة الإقطاعية التي جردتها ثورة 1952 من كل أملاكها لكن القدر وضعها في طريق البطل مرتين. المرة الأولى في مقتبل العمر حين رآها أول مرة في بيت أبيها فأحبها بجنون والمرة الثانية في خريف العمر بعد أن تزوج وأنجب ابنه وابنته فكان عليه الاختيار بين حبه القديم وزوجته (ماجدة) التي شاركته مشوار الحياة.

تتطور الأحداث وتتشابك حتى تصل في النهاية إلى ساحة القضاء للفصل في مصير ثروة البطل ومصيره هو شخصيا بعد أن أصر ابنه (سامي) على إيداعه مصحة علاجية في انكلترا تحمل اسم (تلال الأكاسيا) وبين إصرار (نور) و(سارة) على إبقائه في بيته والعناية به مهما كلفهما الأمر فيما هو ذاهل لا يدرك ما يدور حوله غارقا في ذكرياته المتبعثرة.

وإذا كانت دقة توصيف مرض (ديمنتيا) أو (الخرف) ملفتة للنظر وإصباغ أعراض المرض على بطل الرواية يوحي بأن المؤلف قد يكون طبيبا أو عالم اجتماع إلا أن المدهش أنه في واقع الأمر مهندس مدني جذبه حب الكتابة والشغف بالقلم. وهشام الخشن (53 عاما) روائي غزير الإنتاج له مجموعة قصصية بعنوان “حكايات مصرية جدا” في 2010 وروايتا “ما وراء الأبواب” و”7 أيام في التحرير” في 2011 ثم أصدر رواية “آدم المصري” في 2012 وبعدها المجموعة القصصية “دويتو” في 2013 وبعدها رواية “غرافيت” في 2014 والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في العام نفسه.

لكن المأساة الإنسانية التي تتمحور حولها قصة روايته الأخيرة ليست هي كل ما يقدمه الخشن لقارئها.. ففي قلب كل هذه الأحداث والأحاديث بين الجد والحفيدة يدفع المؤلف بلقطات تاريخية يستعرض فيها أحوال مصر على مدى نحو خمسين عاما. ويربط الخشن بين شخوص الرواية والتحولات السياسية والاقتصادية في مصر منذ ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وإسقاط النظام الملكي ووصولا إلى مطلع القرن الحادي والعشرين.

وبلغة عربية سليمة جذابة يتوالى سرد الأحداث على لسان البطل الذي يؤدي دور الراوي فيتعلق به القارئ ذهابا وإيابا بين الحاضر والماضي وكأنه جزء من ذكريات البطل.

جاءت الرواية في 191 صفحة وصدرت عن مكتبة الدار العربية للكتاب بالقاهرة.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى