رأس المعــري ورأس عمــر عزيــز (عباس بيضون)
عباس بيضون
ربما في اليوم الذي أطيح فيه رأس المعري ورأس طه حسين أطيح أيضاً رأس عمر عزيز. ليس عمر عزيز في مصاف المعري ولا المتنبي. ليست له شهرة المتنبي المدوية ولا اسم المعري. لم نكن لننصب له تمثالاً أو نرفع له شعاراً. لكن المتنبي مجرد اسم والمعري ليس أكثر من شهرة. نتخيلهما ونصنعهما على مقاس خيالنا، أما عمر عزيز فعرفناه وألفناه وسمعناه، بل قضي لنا أن نسمعه ونحادثه قرابة أشهر قبل اعتقاله. لم نعرف فيم اعتقل عمر عزيز. إذا كان النظام في حال حرب فعمر عزيز ليس محارباً وليس وقد أربى على الستين مقاتلاً ولم يعد إلى دمشق ليحارب وينتظر طوال هذا الوقت ليبدأ في الستين حربه، ولست أظنه من الذين آمنوا بالقتال أو استعدوا له، وعلى الأرجح كان في الشام من نخبة تسعى إلى ان تحول الحرب المندلعة إلى نظام وان تدخل عليها قدراً من الترتيب وقدراً من الاتساق. كان هم عمر عزيز هو هذه الحرب العاصفة وكأن هدفه أن يتدخل هو ويتدخل أفراد مثله إلى هذا العصف الهائل فيتركوا فيه لمسات تعقل ويمنعوه من أن يتدهور إلى جحيم لا يبقي ولا يذر، ويحولوا دون أن يتحول إلى جنون وإلى هذيان وإلى شطح بلا حدود. لم يعد عمر عزيز إلى سوريا ليحارب، لم يكن بعد في عمر المحاربين وليست له سابقة في القتال، بل إن الرجل نأى بنفسه هو المثقف الكبير، نأى بنفسه هو الذي لم ينقصه وعي متقدم ولا معرفة كافية ولا متابعة متأنية ولا التزام حقيقي. نأى بنفسه عن ان يمارس السياسة أو ينتمي إلى حزب من الأحزاب، ربما لأن السياسة كما هي كانت أقل رحجاناً من وعيه، وربما لأن الأحزاب المعروضة كانت أقل أحكاماً وعضوية من إدراكه. نأى بنفسه لأن نفسه لم ترضها الجماعات ولم تكفها الأحزاب ولا الجماعات ولأن التزامه كان لشعب ولتاريخ، وحين آذن هذا الشعب بالخروج وحين آذن ذلك التاريخ بالانبثاق. تسلل الرجل الذي لم ينخرط يوماً في حزب ولا في حركة أو نضال وعاد إلى بلده وإلى وطنه وإلى شعبه. مثل عمر عزيز لا يوالون جماعة أو فئة، مثله لا ينتمون إلى حزب أو مجموعة، مثله لا يخوضون السياسة من طريق فرعي ولا يلتحقون بها من مفرق ضيق ولا يلتزمون كرمى لطائفة، أو انحيازاً لعائلة، أو طلبا لمصلحة خاصة. هذه أمور تنصل منها عمر عزيز حين عاد ما ان احتدم وطنه. أمور لم تكن في بال رجل لم يسع يوماً ليكون له موقع أو مكان خاص. كان هم عمر عزيز أن يكون في مستوى شعبه ومستوى وطنه. وحين قام الشعب وقام الوطن لم يتردد لحظة في أن يعود. وأن يعود في أضيق الأوقات وأشدها خطراً، ان يعود حينما كان يغتنمون فرصة لينأوا ما بأنفسهم عن الخطر.
عاد عمر عزيز إلى بلده حينما غدا هذا البلد في محنة، عاد هو الذي لم يكن له حزب ولا جبهة ولا مجموعة ولا يسأل عنه أحد غاب أم حضر. عاد حينما عجت أطراف الأرض بالهاربين والفارين والخارجين، لم يعد ليحارب ولم يكن رجل حرب، عاد لأن ثمة أموراً غير الحرب ولا تقل أهمية عن الحرب تحتاج إلى رجال، عاد لأن مجتمعاً متشققاً ينبغي أن يبقى مجتمعا، ولأنه في فلتانه ينبغي أن يتدرب على السياسة، وان يملك خطة وأساليب رد وخطة عيش. ما هم عمر عزيز ليس القتال بل خارطة طريق أثناء القتال ولكي لا يغدو القتال مجرد تصفية عمياء، لكي لا يكون القتال مجرد مختبر دموي ولكي لا يكون مجرد قطع رؤوس ولكي تكون هناك مطالب عدا القتل تنبغي رعايتها، دخل عمر عزيز إلى سوريا متغيباً عن عمل مربح في السعودية، كانت له حجته ليبقى خارجاً، له حجته فهو من سنين خارج سوريا. لكن الالتزام الأخلاقي كان أقوى. عاد عمر عزيز إلى سوريا في شبه خفية، لم يشعر به أحد، عاد لأن التزامه كان لسوريا كلها، لأنه التزام لشعبه ووطنه، لا يمكننا أن نجد التزاماً أعظم وأقوى. لا يمكن ان نجد ارتباطاً أصرح وأشد شفافية. لا يسعنا ان نعثر على ولاء بهذه الرفعة وبتلك النزاهة وبذلك السمو، ان يكن هناك تعريف للبطولة فهو هذا. كان في وسع عمر عزيز ان يبقى بعيداً عن بلده وان يخدمه حيث هو. كان في وسعه ان يشارك المئات بل الآلاف التي خرجت. لكن الرجل الستيني لم يرض بكل هذه الخيارات المقبولة والمحترمة. لقد شاء ان يعيش بجلده وبنفسه وبأعصابه مع شعبه. شاء ان يكون جسدياً ونفسياً وروحياً مع شعبه. الرجل الذي لم تكن له تجربة سياسية ولم ينزل مرة إلى الشارع، ينتظر حتى يخوض في الستين. ينتظر حتى ينهض الشعب، حتى يتكون الشارع، ينتظر حتى يقوم البلد، حتى ينتفض الوطن عندئذ يقف مع شعبه مع وطنه. حينئذ يحمله دافع رومنسي ليندمج في شعبه وفي بلده، حينما تغدو التضحية هي العنوان. حينما يلقي الناس بنفوسهم على الموت، عندما توازي الحياة الحرية، عمر عزيز يعود إلى دمشقه، عمر عزيز يستلم مصيره ويتمسك بمصيره ويحمله هذا المصير البطولي إلى منتهى الوعي، منتهى الإحساس. منتهى النزاهة. منتهى الشفافية. منتهى التضحية.
لا يجهل أحد ما بين طه حسين وأبي العلاء المعري من صلة، ليس العمى هو القاسم الوحيد بين الاثنين، لكن ما بينهما يبدأ من هنا ويتعداه فيكاد العمى أن يكون في أساس سلسلة من المقابلات حتى لنكاد نشعر أن طه حسين الذي كتب عن المعري غير مؤلف كان يجد نفسه فيه، بين الاثنين أكثر من مقابلة. الشك هو المنطلق الفلسفي لكليهما والشك كان الدعامة الأولى لبناء عقلاني مفتوح قابل للمراجعة وللتحول مطبوع بديناميكية ومرونة. أن يذهب التعصب برأس المعري ورأس طه حسين في مكانين مختلفين ولكن بالمنطق نفسه والرؤية نفسها، لا نستطيع القول إن في هذا ما يعتبر تقدماً، لا نستطيع القول إلا أن في هذا ما ينذر بالويل، اننا إذ نطيح رأس الأول والثاني، نطيح أيضاً بما تبقى لنا من عقل وما كان أمامنا وما استشرفناه من أفق. لم يحاكم أحد المعري في حياته ولم يجازه أحد على شكوكه. كما ان محاكمة طه حسين انتهت نهاية مشرفة للقضاء، وبعد كل هذا الوقت نجد من ينتكس إلى ما ننتكس إليه يوما بعد يوم، فكأن رأس المعري ورأس طه حسين المقتلعين هما رأس عقلنا المغدور والمتراجع والمنتكس.
صحيفة السفير اللبنانية