’’رؤية 2030‘‘ تحوّل جذريّ في الاقتصاد الخليجيّ
“تنويع مصادر الاقتصاد” هو الهدف الرئيس المشترك لدول مجلس التعاون في تحقيق “رؤية المملكة العربيّة السعودية 2030″، وهي تهدف إلى إحداث تحوّل جذريّ في الاقتصاد الخليجي عن طريق زيادة معدّلات النموّ، وتنويع القاعدة الإنتاجية، ودعم مصادر الدّخل الحكومي، فضلاً عن تمكين القطاع الخاصّ من القيام بدورٍ أكبر في النشاط الاقتصادي، مع التركيز على رفع قدرة المواطن وزيادة إنتاجيّته ومساهمته في سوق العمل.
لا شكّ في أنّ وضع “رؤية المملكة” في السياق الخليجي يمكن أن يُحقِّق أهدافاً عدّة إضافية، وخصوصاً أنّ لديها أكبر اقتصاد عربي، أهَّلَها لتكون في عداد “مجموعة العشرين” التي تقود مسيرة الاقتصاد العالمي، وتحتلّ المرتبة 19 عالمياً لجهة حجم الناتج المحلّي، والذي بلغ العام الماضي نحو 750 مليار دولار. أمّا أهمّ هذه الأهداف، فهي تبرز من خلال تحقيق التناغم مع خطط التحوّل والتنويع الاقتصادي في دول المجلس الخمس الأخرى، ووفورات الحجم عن طريق مضاعفة حجم السوق وزيادة الترابط بين المواطنين وقطاع الأعمال، وذلك في سياقِ تنفيذ السوق الخليجية المشتركة التي تهدف إلى زيادة حجم الاستثمارات وتمكين الشركات والمؤسّسات الخليجية والمستثمرين من ممارسة النشاط الاقتصادي في أيٍّ من دُول المجلس كسوقٍ واحدة. وبما أنّ معظم هذه الدُّول تمرّ بظروفٍ مُشابهة لظروف المملكة التي يشكّل اقتصادها نصف الاقتصاد الخليجي، فهي تتطلّب إصلاحات جذرية تستند إلى أسس صلبة لتتحوّل من الاقتصاد النفطي (الريعي عموماً) إلى اقتصادٍ طبيعي متنوّع في الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات بمختلف أنواعها، وتحقيق ذلك يمكن أن يتمّ خلال فترة زمنية أقصر بكثير ممّا لو سعَت كلّ دولة إلى التحوّل الاقتصادي المطلوب بمفردها.
لقد أثبت اقتصاد دول مجلس التعاون قدرته على تجاوز الأزمات الإقليمية والعالمية، وذلك باعتماده الكبير على إيرادات النفط، واحتفَظ بموقعٍ متقدّم على المستوى العالمي من ضمن قائمة أكبر 12 اقتصاداً عالمياً، وبلغ حجمه نحو 1.7 تريليون دولار مع نهاية العام 2014، ولكن يبدو أنّ اعتماده على النفط قد عَرقل دَور القطاع الخاصّ ومساهمته في تعزيز نشاطات القطاعات غير النفطية في سوق العمل، حتّى أنّ وفرة التدفّقات النفطيّة على مدارِ عقودٍ ماضية، لم تنجح في بناء اقتصاد قويّ، ولم تُسهِم في إنجاز إصلاحات اقتصادية ومالية واجتماعية، الأمر الذي أَسهم بدوره في عجز الحكومات عن التخلّص من نمط “الاقتصاد الريعي”.
من الفائض إلى العجز
في العام 2014، سجّل الحساب الجاري لميزان المدفوعات فائضاً في دُول مجلس التعاون، وعجزاً في الدُّول العربية الأخرى المصدِّرة للنفط (العراق، ليبيا، الجزائر) إلّا أنّ هذا الفائض لمجموعة الدُّول العربية النفطية قد انخفض من 362 مليار دولار عام 2013 إلى 214 مليار دولار عام 2014، وتحوّل إلى عجزٍ بلغ 74 مليار دولار في نهاية العام 2015، ويُتوقَّع أن يرتفع إلى 100 مليار دولار عام 2016، وفق تقديرات صندوق النّقد الدّولي التي أشارت أيضاً إلى تراجع أرباح دُول الخليج من مبيعات النفط خلال العام 2015 بحوالي 360 مليار دولار، حيث انخفض فائض الحساب الجاري لميزان المدفوعات من 349 مليار دولار عام 2013 (20,5 في المائة من الناتج المحلّي الإجمالي) إلى 243 مليار دولار عام 2014 (14,4 في المائة من الناتج المحلّي الإجمالي)، ولكن في العام الماضي سجَّل عجزاً بلغ ثلاثة مليارات دولار، ويُتوقَّع أن يرتفع إلى 36 مليار دولار في العام الحالي.
هناك عوامل عدّة أسهَمت في تراجع الفوائض المالية العامّة، منها تناقص الإيرادات النفطيّة نتيجة انخفاض الأسعار، واستمرار الإنفاق الحكومي الكبير بما في ذلك الإنفاق على الأجور، ودعم قطاع الطّاقة ومشروعات البُنى التحتيّة. حتّى أنّ جميع الدُّول العربية المُصدِّرة للنفط سجَّلت عجزاً في الميزانيه العامّة لعام 2015 يتراوح بين 5,5 في المائة من الناتج المحلّي في الإمارات، وهو الأدنى، ويرتفع بحسب وضع كلّ دولة ليصل إلى79,1 في المائة في ليبيا؛ وقد تَحوّل الفائض المالي الذي حقّقته دول مجلس التعاون عام 2013، والبالغ 6,6 في المائة من الناتج المحلّي الإجمالي، إلى عجزٍ بلغ 18,8 في المائة عام 2015، ويُتوقَّع أن يتراجع إلى 16,8 في المائة عام 2016. وتشير التقديرات إلى تحوّل مجموع الفوائض في دول المجلس، البالغ 76 مليار دولار عام 2014، إلى عجزٍ قدره 113 مليار دولار في العام الماضي، نتيجة الارتفاع الملحوظ في الإنفاق العامّ خلال السنوات الأخيرة تزامناً مع الانخفاض الحادّ في أسعار النفط. وقدَّر صندوق النقد الدّولي خسائر الدُّول المُصدِّرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكثر من 340 مليار دولار خلال عام 2015، وبما يعادل 20 في المائة من ناتجها الإجمالي المحلّي.
وبما أنّ دول الخليج تعتمد بشكل تقليدي على ثروتها النفطية كعمودها الفقري لاستقرارها ونموّها الاقتصادي، فهي تعاني من الانهيار الحاصل في أسعار النفط، وسيترافق مع انخفاض العائدات عجزٌ في الموازنات الحكومية، وتراجعٌ في النموّ، وانكماشٌ في السيولة، وبالتالي تجتهد حكومات دول الخليج لتكييف ماليّتها مع الأوضاع المُستجدَّة، والتي تتطلّب اعتماد تدابير وإصلاحات لتعزيز الإيرادات غير النفطيّة، وزيادة الضرائب وخفض الإنفاق، فضلاً عن إصلاحات أساسيّة تهدف إلى تحقيق التنويع الاقتصادي.
إصلاحات ماليّة واقتصاديّة
اتّخذ قادة دول مجلس التعاون في قمّتهم التشاورية في دورتها السادسة عشرة التي انعقدت برئاسة خادم الحرمَين الشريفَين الملك سلمان بن عبد العزيز في مدينة جدّة في نهاية أيار(مايو) الماضي، قرارات مهمّة، من بينها قرار تشكيل “هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية”، مهمّتها تعزيز التكامل والتنسيق، ومتابعة تنفيذ رؤية الملك سلمان في تعزيز العمل الخليجي المشترك التي أقرّتها قمّة الرياض في كانون أوّل (ديسمبر) 2015. ويقضي القرار الثاني بإقرار النّظام الأساسي للهيئة القضائية الاقتصادية بما يُحقِّق مصالح مُواطني دول المجلس. أمّا القرار الثالث فهو يقضي بالموافقة على اتفاقيّتَيْن الأولى خاصّة بالضريبة على القيمة المُضافة، والثانية بفرض ضريبة انتقائية على بعض السلع الاستهلاكية.
وتُشكّل الاتفاقيّتان الإطار المُشترك لإدخال هاتين الضريبتَين في دول مجلس التعاون، وقد بدأت التحضيرات اللازمة لتطبيقها خلال السنتَين المُقبلتَين، بحيث يبدأ تنفيذ الضريبة على السلع الاستهلاكية بدءاً من عام 2017، والضريبة على القيمة المُضافة من أوّل العام 2018، على أن تكونا أساساً لإصدار التشريعات الضريبية الوطنية من جانب كلّ دولة عضو في مجلس التعاون، وعلى هذه الدول إنجاز ذلك قبل التاريخ المُحدَّد لتطبيق الضرائب الجديدة، بهدف منح الشركات الوقت الكافي للتنفيذ السلس.
ويُعتبر النّظام المقترَح لفرض الضريبة على القيمة المُضافة، والتي ستُطبَّق بنسبة 5 في المائة في كلّ دُول مجلس التعاون، متكاملاً وموحّداً، وسيستند إلى مبدأ الوجهة، إذ ستُفرَض الضريبة عند الاستيراد وعلى السلع والخدمات المحلّية، بينما تخضع الصادرات لضريبة نسبتها صفر في المائة.
ونَصحت مؤسّسةُ “بي دبليو سي”، التي تهتمّ بالأنظمة الضريبيّة، الشركاتِ بالتحضير سلفاً للتمكّن من الامتثال للالتزامات الجديدة، ووصَفت إدخال الضريبة على القيمة المُضافة والضريبة الانتقالية بأنّهما إصلاحٌ سياسيٌّ مهمٌّ لمساعدة الحكومات الخليجية على تحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية المتوسّطة والطويلة الأجل، والحدّ من الاعتماد على عائدات النفط والغاز.
تبقى الإشارة إلى أنّ دُول مجلس التعاون جَمعت ثروة مالية كبيرة من عائدات النفط تُقدَّر بنحو 2.45 تريليون دولار، وبما يُعادِل 35 في المائة من مجموع الثروات السيادية في العالم والبالغة نحو 6.83 تريليون دولار. وفي رأي خبراء صندوق النّقد الدُّولي أنّ لدى هذه الدُّول إمكانات مالية ضخمة تؤهّلها لاحتضان برنامج للتنويع الاقتصادي، يُجنِّبها مخاطر تقلّبات أسعار النفط التي تتأثّر بعوامل عدّة لا تقتصر على مستويات الإنتاج فقط، بل تخضع لتطوّرات أمنية وسياسية واقتصادية، ولعوامل نفسية لدى المُتعاملين في الأسواق، فضلاً عن متغيّرات خارج سيطرة الدُّول المُنتِجة، لذلك، فإنّ تقليص الاعتماد على القطاع النفطيّ يُخرِج اقتصادات الخليج من تحت رحمة التطوّرات في أسواق النفط العالمية.
*كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)