أحوال الدنيا

رئاسة تلفزيونية وتعويم سياسة العوام !!

د. فؤاد شربجي

أثناء زيارة الرئيس ترامب إلى اسكوتلندا قبل أكثر من أسبوع صرح أنه فوجئ بما يعرضه التلفزيون من صور عن المجاعة في غزة. وأعلن أنه تأكد أنها (بالفعل مجاعة حقيقية. لأن هذه الصور لا يمكن تزييفها أو فبركتها) كما قال.
‏وعلقت النيويورك تايمز ساخرة وناقدة دهشة الرئيس مما يراه: (كيف لرئيس أعظم دولة أن ينتظر التلفزيون ليعرف أن هناك مجاعة في غزة؟؟ ألا يقرأ تقارير المخابرات، خاصة وانه يملك أكبر وأخطر أجهزة الاستخبارات في العالم؟؟؟  الواضح أن ترامب يفضل ويثق ويتأثر بما يعرض على التلفزيون أكثر من كل ما يكتب له من احاطات وتقارير استخباراتية. يبدو أنه مسحور بالتلفزيون ويتأثر به يتأثر، ويعتمده ليسحر جمهوره أيضا. وهذا ما يجعل الرئاسة تلفزيونية كاستقبال وكإرسال.

‏الاثنين الماضي، عندما استقبل ترامب زيلنسكي أدخل التلفزيون معه إلى البيت الأبيض ليقدم مؤتمرا صحفيا مع ضيفه الذي سبق وأن وبخه وشرشحه على نفس الكرسي قبل شهر. وأيضا أمام عدسات التلفزيون. ثم انتقل إلى قاعة الاجتماع مع قادة أوروبا الكبار. أخذا معه التلفزيون لينقل لنا وللجمهور العالمي كلمات القادة الأوروبيين في مدحه ومدح رئاسته. وهذه أول مرة ينقل التلفزيون كلمات قادة في اجتماع أمنى عسكري. يبحث مشكلة الحرب الخطيرة في أوكرانيا والمهددة لأوروبا كلها.

‏ليس ترامب إلا النموذج الأسطع والأوضح للرئاسة تلفزيونية، وكما يريد أن يبث للعالم ما يؤكد أنه الرئيس الإمبراطور القادر على كل شيء، يريد أيضا أن يحتل العرض التلفزيوني كنجم لا تغيب الإضاءة عنه. وهو ليس فريدا في هذه الأمور. فكثير من الرؤساء مثله كرئيس المجر والأرجنتين والسلفادور وكثير غيرهم. وبعض الرؤساء العرب فتنوا بالتلفزيون أيضا. حتى أن الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل احتج وأنتقد يومها قيام الرئاسة المصرية بتعيين وزراء لمجرد أن الرئيس أعجب بهم وهو يشاهدهم يتحدثون على التلفزيون. عينهم وزراء رغم أنه لا يعرفهم إلا من التلفزيون. كما قال هيكل يومها. كذلك في سوريا وفي بداية مواجهة النظام السابق للمظاهرات والاحتجاجات، اعتمدت قيادته في اختيار الوزراء على من يظهرون على التلفزيون كمحللين سياسيين وكانوا في أغلبهم كوارث في الوزارات التي تسلموها. ومازالت عملية الاعتماد على الإبهار التلفزيوني في ترويج العلاك السياسي مستمرة. ومازال تعويم العلاكين ليحلوا محل النخب البصيرة مستمرا. ويسألونك عن سبب تدهورنا. قل هو انحطاط السياسة وسيادة التفاهة والعلاك، للأسف!

‏المصيبة في رئاسة التلفزيون أنها تهبط بالسياسة من مستوى النخب إلى مستوى العوام. وبدل أن تكون السياسة للنخب المفكرة وصاحبة الرؤى.. باتت سلعة تسوق للعوام. فتستلب لأساليب إغراء العوام بتحريك غرائزهم وبمخاطبة مخاوفهم وإثارة عواطفهم. لذلك تحضر السطحية والمبالغة والنفاق والدجل. وبعد أن كان الحكم معتمدا على بصيرة وعقل وفكر النخب صار مستندا إلى العوام. عاملا على إرضاء سطحية العوام. مكتسبا أساليب وأفكار العوام. وفي هذا تضييع للسياسة وتحريف وتشويه للفن التلفزيوني عن وظائفه الإعلامية  الحقيقية والإبداعية الخلاقة، بجعله سلاحا لسياسة عوام يجلسون على كراسي الرئاسة.!!!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى