‘رئيس التحرير’ .. تكشف المستور في عالم الصحافة

قليلة هي الأعمال الأدبية التي اخترقت كواليس الصحافة والأدب وكشفت عورات ما يحدث من مؤامرات وفتن وسرقة فرص، عالمياً يمكن أن نؤشر عملين لهنري ترويا، هما “ابنة الكاتب” و”الميت الحي” الأولى عن كاتب ناشيء يعمل بخبث ودهاء لأخذ دور كاتب مشهور، عن طريق التواطؤ مع ابنة الكاتب من خلال الدخول معها بعلاقة عاطفية، والرواية الثانية عن موت كاتب مشهور تتزوج أرملته من كاتب مغمور وتسلمه مخطوطة رواية كان قد كتبها زوجها ليعمل الزوج الثاني لإصدارها باسمه، وحين تسبب له الرواية نجاحاً لم يكن يحلم به ويوضع في دائرة الأضواء، يبدأ الصراع النفسي حين يطالبه الناشر والجمهور برواية ثانية.. وفي الروايتين يكشف هنري ترويا الألاعيب والدسائس في عالم الصحافة والأدب.

أما عربياً فلم يتوفر لي أن أقرأ رواية تكشف تلك الدسائس عند أصحاب المهنة، الا رواية “رئيس التحرير، أهواء السيرة الذاتية” للشاعر أحمد فضل شبلول، نعم قد تكون هناك أعمال لم أطلع عليها لكن ما اطلعت عليه كان يمر مروراً عابراً كإطار لصورة من دون أن يدخل الى تفاصيل تلك الصورة.

وككل، أو في الأغلب، فإن الروايات الأولى لأي كاتب تستقي مادتها من التجارب الشخصية لكاتبها قبل أن تعبر الى تجارب الآخرين، لكنها ليست بالضرورة سير ذاتية، لأن السيرة الذاتية لا تحتمل الخيال بل تعتمد على الأحداث والوقائع والوثائق أحياناً، فتعيد كتابتها والتذكير بها كما حدثت من دون أن يتلاعب الكاتب بالطريقة التي حدثت بها، بينما الروايات تمزج بين الواقع والمتخيل وتمزج بين الأجناس وقد تستخدم الوثيقة إن دعت الضرورة.. وبالتأكيد فإن أحمد فضل شبلول استفاد الى حد كبير من تجربته الشخصية في هذه الرواية.

وما بين الواقع والمتخيل خيوط رفيعة قد لا تُرى، لكن الأهم أن يخرج النص معافى من بين أصابع المبدع، وهذا ما فعله أحمد فضل شبلول في روايته الأولى “رئيس التحرير” فأصدق الكتابات هي تلك التي تأتي بعد تجربة طويلة وعميقة، لتقدم للقارىء مادة غنية وجذابة في آن.
وأنا أقرأ “رئيس التحرير” تساءلت بيني وبين نفسي: لماذا لم أستفد حتى الآن من تجربتي الصحفية والإعلامية التي امتدت لسنوات برغم ما فيها من شحنات الدراما والشخصيات التي تصلح للقصص والروايات وما تعرضت له خلال عملي الطويل في تلك المجالات من محاولات تهميش وصدامات ووشايات وضغوطات نفسية أثناء سنوات الحروب وتحقيقات عن أمور لا أعرف عنها شيئاً ؟

هذا التساؤل لم أسأله لنفسي سابقاً، ولم يصدف أن تسربت تجربتي الصحفية والأدبية الى أعمالي في يوم من الأيام، كأن رواية رئيس التحرير نبشت في رأسي وأخرجت هذا السؤال الكامن في أعماقي، هذه الرواية التي استمتعت بقراءتها حقاً، وأثارت قصصاً نائمة في ذاكرتي، أوقفتني واستوقفتني، بشخصياتها، وبالأسلوب الذي كتبت به، وبمعلوماتها القيمة عن التاريخ القديم والحديث لمدينة الاسكندرية، وأحداث مصر السياسية الساخنة، القديمة منها والحديثة.. إنها رواية غير عادية، رحلة داخل كواليس الصحافة والنفوس الباحثة عن موطىء قدم، وهي رحلة أيضاً في عالم الفن والأدب والتاريخ.

أتقن أحمد فضل شبلول إدارة شخصياته بأصابع محترف، كأننا نرى تلك الشخصيات وهي تدور وتمشي وتحلم وتبحث عن الفرص بشتى السبل في أروقة العمل، حتى وإن كان الوصول الى الغاية بطرق ملتوية، برسائل كيدية، بتشويه صورة الآخر، أو بالتملق لأصحاب القرار.
من الشخصيات التي كان لها وقع خاص واستمرارية في نسج الرواية، منى فارس، الصحفية الطموحة، الحالمة بالأضواء والشهرة، التي لا تأتي فرصة الا وتقتنصها، العاشقة للسينما والمسرح، والتي دخلت التلفزيون كمقدمة برامج ثم أخذها طموحها الى السينما وأصبحت ممثلة مشهورة.. والجوهرة ابراهيم، الصحفية الخليجية، وهي امرأة أرملة، جميلة ومثقفة وذكية، لها أذرع تمتد الى أصحاب القرار، وقد تنازلت عن منصب رئاسة التحرير وعملت في استطلاعات المجلة التي يعمل فيها يوسف، الصحفي القادم من الاسكندرية، والذي أسند له أحمد فضل شبلول دور البطل الذي يروي الأحداث، ويكتوي بنار مؤامرات الآخرين لاستبعاده بسبب تميزه وتفانيه في العمل.

منى فارس، والجوهرة، تقعان في حب يوسف، الأولى حب وأحلام وسعي لتثبيت موطىء قدم في العمل، والثانية ارتبطت بيوسف بعلاقة جسدية، وقدمت له الكثير من الفرص في الكتابة خصوصاً تلك التي يقف رئيس التحرير عائقاً أمام نشرها، وسنمر على الكثير من الصراعات الخفية بين الجوهرة ورئيس التحرير، الرجل الذي لا يمتلك إرادة حرة في تسيير العمل وإنما بإرادة من هو أعلى منه.
وثمة شخصيات ثانوية كانت لها ضرورتها في الكشف عن خبايا ما يدور، منها شخصية درية إبراهيم التي تنتمي الى جماعة يسارية، والتي تلقب بـ (خشبة عمود عبدالواقف) لشدة نحافتها، وكم حاولت جر رجل يوسف للعمل معهم إلا أنه قدم خطوة ثم تراجع خطوات.. وشخصية فوقية لاشين، المنتمية الى جماعة إسلامية، والمعتز بالله، إخواني، وشخصيات تمر مروراً عابراً لكنها تضيء جانباً من الوضع السياسي في البلد.

رواية “رئيس التحرير” صدرت عن دار الآن ناشرون وموزعون، وجاءت بسبعة وعشرين فصلاً، وبـ 178 صفحة من القطع المتوسط، فصول قصيرة تسحب القارىء الى عوالمها الشيقة، وبرأيي الشخصي فإن فصل “النبطي” كان من أجمل وأغنى الفصول حيث يأخذنا أحمد فضل شبلول الى عبق التاريخ الاسطوري لمدينة البتراء الأردنية، تلك المدينة الساحرة التي تسلب المشاهد إعجابه وتثير فيه شهية البحث عن الأجداد الذين نحتوا هذه المدينة الوردية في الصخر الأصم، فنمشي معه في طرقاتها، صخورها، كهوفها، بيوتها المعلقة في الجبل، آثارها، وتاريخها السري والمعلن.. بلغة ثرية المفردات وبخيال مثير وجامح.

رئيس التحرير تتركك حين تنتهي من قراءتها بشعور من كان جائعاً وشبع، وعطشاناً وارتوى، برغم قصر الرواية التي تمنيت أن تمتد لأكثر من تلك الصفحات، وأن تعود درية إبراهيم (خشبة عمود عبدالواقف) لنرى ماذا حل بها بعد أن اعتقلت.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى