مكاشفات

راشد عيسى… مُبدعٌ تَرعْرَعَ في كهفِ ضَبُعٍ ميّت!

د. مُحمَّد الحوراني

أن يستأجرَ والدُك كهفاً من ضَبُعٍ ميّتٍ ليُسكِنَكَ إيّاهُ معَ أفراد أُسرتِك يعني أن تنشأ كما الضَّواري في غاباتِ الجَمال وسُهولِ الرحابة الإبداعيّة المُتحرّرة من القُيودِ كُلِّها سوى قُيودِ الرَّصانةِ والتجديدِ والابتكار في إلهامِك ووَحْيِك. ولأنّهُ كانَ رافضاً الأدْلَجَةَ وعابراً الأزمنةَ والأمكنةَ، أتتْ أعمالُهُ بعيدةً عن التَّدْجينِ ورافضةً التَّهْجينَ في جميعِ الأجناسِ والحُقولِ الأدبيّةِ والمعرفيّةِ التي اشتغلَ عليها، فغدَتْ نابذةً للجَهَلَةِ وجاذِبةً للباحثينَ عن عُلوِّ النَّصِّ ورفعَتِهِ وطُهْرانيّتِه، وهي الطُّهْرانيّةُ التي لا تخلو من مُشاكساتٍ وخفّةِ دمٍ ورهافةِ رُوحٍ وسُموٍّ إبداعيٍّ قلَّ أنْ تجدَهُ لدى أقْرانِهِ من الكُتَّابِ والمُبدعين، كيفَ لا، وهُوَ القادرُ على إيقاظِ البراكينِ المُؤجَّلةِ من سنينَ طويلةٍ، والبارعُ في احتضانِ الجِذْعِ ببراءةٍ لا تخلو من شقاوةِ البدويِّ الرافضِ للاستجابةِ إلى مطالبِ مُضيفَتِهِ قبلَ تحقيقِ غايتِهِ قبلَ السُّقوطِ عن البعير؟!

هو الذي كُسِرَ الزَّمَنُ لديهِ لمّا اعتدى أستاذُهُ على ساعةِ جدّتِه (المُنَبِّه)، بعدَ أن رَبَطَها بخيطانِ (المصيص) بيدِهِ، إلى أنْ ناءَتْ يدُهُ بحَمْلِها على الرَّغْمِ من العواملِ المُساعِدةِ كُلِّها وتَجبُّرِهِ على مُحاولةِ الحملِ هذه على الرَّغْمِ من ثِقَلِ الزمنِ وخوفِهِ من أنْ يلسعَهُ عقربُهُ المُتوحِّش، هذا العقربُ الذي أخافَهُ أكثرَ ممّا أخافَتْهُ عقاربُ البراري وثعابينُها وأفاعيها، التي تصالحَ معَها إلى درجةِ أنّهُ أصبحَ يُخاطِبُها، وتَفْهَمُهُ، ويأكُلُها حينَ يجوعُ دُونَ أن تُؤْذِيَهُ بسُمِّها.

هكذا تبدو النُّصوصُ الراشديّةُ السَّرْديّةُ كما هيَ حالُ نُصوصِهِ الشِّعْريّة، بعيدةً عن التَّكلُّفِ ومُتماهِيَةً معَ الواقعِ بتَناقُضاتِهِ كُلِّها، وميّالةً إلى البحثِ عن منافذَ في عُمقِ الوجَعِ للخُروجِ من الألمِ إلى الأملِ من خلالِ مُفارقاتٍ وتناقُضاتٍ وضِدّيّاتٍ تجعلُنا نفهمُ الحياةَ على نحوٍ صحيح، فحياتُنا قائمةٌ على ما يُسعِدُ النَّفْسَ وما يُشْقِيها، لكنَّ البدويَّ البارعَ في مُقارَعةِ الضَّواري والخبيرَ بمُحاوَرةِ نباتاتِ الغابةِ وأشجارِها، يُؤمِنُ إيماناً مُطلَقاً بقَدَرِهِ ونصيبِهِ من الإبداعِ المُتميِّزِ الذي جعَلَهُ في طليعةِ الأُدَباءِ بفَضْلِ موسُوعيّةِ ثقافَتِهِ وعُمْقِها وقُدرتِها على الابتكارِ اللُّغويِّ والنَّقديّ، حتّى إنَّ القارئَ يعتقدُ بأنَّ اللُّغةَ والمعرفةَ عجينةٌ ليّنةٌ بينَ يديه، يُشكِّلُها كيفَ شاءَ، ومتى أراد، مُحاوِلاً خَلْقَ الأضدادِ منها، وتناقُضاتُ الحياةِ لديهِ تُشبِهُ حجرَينِ انْقَسَما من صخرةٍ واحدة، الأوّل صارَ دِعامةً في سَدٍّ أُقِيمَ على النهر، ثمّ نَقَلُوهُ إلى قاعدةِ قلعةٍ حربيّة، وبعدَ انْهِدامِها وَضَعُوهُ في مدخلِ المدينةِ، وعليه نقشٌ يُرحِّبُ بالزُّوّارِ، إلى أنِ اختارُوهُ حاملاً لناقوسِ المعبد. اشتاقَ إلى شقيقِهِ الغائب، وسألَ عنهُ في كُلِّ مكانٍ، إلى أنْ جاءَهُ خبرٌ يقينٌ بأنَّ أخاهُ الآنَ عَتَبةٌ لبابِ دورةِ المياهِ العامّةِ وسطَ المدينة.

تطويعُ اللُّغةِ وكَسْرُ رتابتِها هي اللّعبةُ التي يُجيدُها راشد عيسى بمهارةٍ عالية، من خلالِ حركاتٍ يتخيّلُها بعضُهُمْ بهلوانيّةً، ويُمكِنُ أن تُوقِعَهُ في المحظورِ اللُّغويِّ، لكنَّ سعةَ ثقافتِهِ وحذاقتَهُ اللُّغويّةَ تَجْعَلانِهِ ينجحُ في الاختباراتِ جميعِها، ويُبدِعُ في الأعمالِ جميعِها، بل إنّهُ الأقدرُ على الانتقام ممّنْ يُعانِدُهُ بطريقةٍ لا تبتعدُ عن بيئتِهِ ونقائِهِ البَرّيّ.

إنّهُ ذلكَ الصّيّادُ الذي ابتلَعَتِ السَّمكةُ الكبيرةُ صنّارَتَهُ، فانتقَمَ من البحر بعدَ أنْ عبّأهُ في قنّينةٍ، وكَسَرَها، وهو الشَّقيُّ المُتدرِّبُ على “منكرة” نملة بشقاوتِهِ الطفوليّةِ لعلّهُ يُصبحُ في يومٍ من الأيام “كوافيراً” ناجحاً.

هكذا يبدو الشّاعرُ والقاصُّ والناقدُ الأكاديميُّ الدكتور راشد عيسى في مجموعتِهِ الأخيرة، عاتباً على الحياة في بحرٍ من الحُزنِ المُفاجِئِ بعدَ انقضاءِ ليلةِ الزفافِ بنجاحٍ باهر، لأنَّهُ “الزّرُّ” الباحثُ عن عُرْوَةٍ تليقُ بهِ في ثوبِ العروسِ الأبيضِ الفاخر، لكنّهُ بقيَ مُعلَّقاً بالفُستانِ على الشمّاعة مثلَ أسيرٍ مظلوم، ولهذا كانَ عَتَبُهُ على الحياةِ شديداً، فما هيَ إلّا كذبةٌ بينَ “الزّرّ والعُرْوَة” الصادرةِ حديثاً (٢٠٢٥) عن (ناشرون) في المملكةِ الأردنيّةِ الهاشميّة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى