راهنية التقسيم الصوفيّ: حين تستوي المرأة مع الرجل في مركزية الخلق
لا تندرج النظرة الصوفية إلى المرأة، عموما، في سياقات الرؤية العربية الإسلامية الكلاسيكية. نعني تلك الرؤية الفقهية إذ تتشكل ضمنها المباني النظريّة والعمليّة، مستثمرةً مفاهيم الذكورة والسيطرة بما هي تجلياتٌ للقوامة التي تحرص، في شكل من الأشكال، على مأسسة مخيال الذكر القبَليّ/ القائد الاعلى/ والمنتِج الأوحد. المخيال ذاتهُ، تكون المرأة فيه “منفعلا” في دائرة الفعل الذكوري الأصيل. المرأة ادنى رتبة، من الناحية الانطولوجية، باعتبارها مخيالا ذكوريّا، ولا تستقيم العلاقة بين الكائنين إلا من قلب مربع “الشهوة”. الشهوة باعتبارها أوّلا طاقة أو سلطة قد تنحو منحى التفلت ضمن أنساقٍ تكون فيها هي الدافع الأصلي لإنتاج الحكم الفقهيّ، الذي هو حكم “مُفكَّر فيه” من جهة الرجل تحديدا. الرجل/ الذكر قائما بتأطير الحكم واستثماره في الترتيب الأبويّ الراسخ اجتماعيا. المرأة، إذاً، في خلاصة المدونة الفقهية، موضوعة شهوةِ الرجل. إنّها المنتَج المسطّح والمشيّأ الذي يكون غالبا نتاج فانتازيا الذكورة وحلقة استثماراتها الرئيسية.
من الفصوص
المرأة، في دوائر “فصوص الحكم” للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي (توفي سنة 638 هجري الموافق 1240 ميلادي)، هي خلاصة سياق طويل من الانشغال الصوفيّ، في شقّه الفلسفيّ التأويليّ، بهذا الكائن، باعتبارها مركزا كونيا. إنها فيض جماليّ وتجلٍّ إلهيّ أو بالأحرى خيال. وفي المقابل، هي أداة ظاهرية للتعبير الجماليّ المرمَّز الذي يُتّقى به في التعامل الحذر مع الذات الإلهية شعرا أو نثرا صوفيّين (“ترجمان الأشواق”). الفصوصُ، متنُ الشيخ الأمكن والأصعب (بل أكثرُ متونه جدلا عند المؤرخين)، يرى فيه الشيخُ الى المرأة من باب المحبّة والحنين إلى الحقّ، حنين الجزء إلى الكلّ، على ما في لفظ ” المحبّة” من مُحمّلات تتصل بدلالات المصطلح في تاريخ استخداماته الصوفية.
وعلى طريقة الصوفية في تجيير الأحاديثِ، يُحكِمُ الشيخ مقاطع رائعة من الفصوص، تكون المرأة فيها مقدّمة على الصلاة رتبةً في “نفْس” النبي/ قطب الأقطاب. ننتقي مثالا ما ورد في “فصّ الحكمة الفردية في كلمة محمّدية”، في تأويل حديث “حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرّة عيني في الصلاة”. يقول الشيخ: “لذلك قال في باب المحبة في ذكر الموجودات (…) فابتدأ بذكر النساء وأخّر الصلاة”. ويردف: “فبطن نَفَس الرحمنِ فيما كان به الإنسان إنسانا. ثمّ اشتق له منه شخصاً على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحنَّ إليها حنين الشيء إلى نفسه وحنّت إليه حنين الشيء إلى وطنه. فحبّب إليه النساء. فإن الله أحبّ مَن خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النوريين”. ثمّ يقول: “فإنّها، أي المرأة، زوجٌ أي شفعت وجود الحق، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجا”.
لا يمكن فصل الرؤية الصوفية إلى المرأة، كموضوعة، عن أنساق الرؤية الصوفية إلى العالم وإلى الكائن البشري/إنسان عموما، في مختلف ترتيباته الوجودية. إنها رؤية لا تستمد حيويتها من هاجس السلطة وتطلعاتها، كما نلحظ ذلك في منظومة الفقه الكلاسيكيّ، بل تستمد حيويتها وحداثتها من راهنية العزلة والانقطاع، نعني تلك العزلة إذ تكسّر كلّ مجالات وأصنام السلطة، ذكورية/ أبوية/ قبلية، وتؤدي بالنتيجة إلى إنتاج الخطاب الذي يكون في الغالب مهجوسا بالكائن الإنساني/كائن الله، كرتبة مركزية، ترفع الجمال البشري بدلالاته واستثماراته العميقة، مقابل تهميش الشهوة أو، إذا صح التعبير، قطع علائق الشهوة بغواياتها و إسراراتها السلطوية لصالح اعتبارها أداة من الأدوات التي تساهم، مع غيرها، في تكوين مفهوم جماليّ اسمه طهرانيّ، هو المرأة.
نتحدث في هذا الإطار إذاً عن كائن يستمدّ حداثته الدائمة في النسق الصوفيّ ــ بخلاف الفقه التقليديّ ــ من كونه فاعلا حرا في الدائرة الجمالية الكونية. إنه الكائن ذو الرتبة التي تستوي فيها المرأة مع الرجل في مركزية الخلق مقابل الحقّ. إنها كائن عارف/يعرف، سابح/ يسبّح وعاشق/يعشق.. وقد تكون المرأة إماماً في هكذا نسق، يندرج في إمامتها الروحيّة أعلامٌ من الرجال.
فاطمة وعائشة
نورد، مثالا لا حصرا، وربطا بما تقدّم، نموذجين من مشهورات المتصوفة: الأوّل هو نموذج فاطمة النيسابورية، التي كانت من عارفات نساء خُراسان، والتي كان ذو النون المصري يسألها عن مسائلَ، وإنه قد سُئل عنها في أواخر عمره فأجاب: “ما رأيت أحدا أجلّ من امرأة رأيتها بمكة يقال لها فاطمة النيسابورية. كانت تتكلم في فهم القرآن في تعجيب منها.. هي ولية من أولياء الله”. والثاني هو نموذج عائشة بنت أحمد الطويل المروزية، التي بحسب النُقول “لم يكن في وقتها أحسن حالا منها ولا ألطف طريقة في التصوف”. عائشة التي قالت، حيث قيل لها إن فلاناً لم يقبل رفقتك إذ في قبول أرفاق النسوان مذلة ونقصان: “إذا طلب العبد التعزز في عبوديته، فقد أظهر رعونته”.
راهنية التأويل
بخلاف الصرامة التقعيدية لفقه المرأة التقليدي، يتسم خطاب المرأة في الدائرة الصوفية بمنسوب فائق من الحيوية والقدرة على خلق مجالات تبقى موصولة بالراهن. الجفاف الفقهيّ التقعيدي الذي يقفل الباب على أي تعديل عميق يفتح خطاب المرأة على حداثة انسانوية مفترضة، يقابله إلى حدّ بعيد كنزٌ من التأويل الصوفيّ يرى إلى المرأة مرتكزا من باب الخطاب الانسانويّ. إنها قدرة خطاب فائقة على إدماج أو إدراج نسق من الفهم الثلاثي الدائريّ المتداخل لا المنفصل، الله/إنسان/كون، في مختلف أنساق الرؤية الحداثية إلى الكائن ووجوده. نسق يظل قادرا على التكيف مع طروحات الحداثة ولاسيما في موضوعة ترتيب صلة الكائن (رجلا وامرأة) بالمفارق، باعتبار الكائن موضوعة رئيسية لا هامشا في مركزية الإله المفارق. زد على ذلك أن فهم المفارق ذاته في ثنائية (الحق/الخلق) الصوفية، من حيث أن الخلق خيالات أو فيوضات للحق، يعيد قلب فهم الكائن للمفارق أصلا، فلا يكون المفارق عند ذلك منفصلا بالمطلق بل ذا تماسات دنيوية غائرة في نفس الإنسان. يؤسس ذلك بالنتيجة لحساسيات إنسانية مغايرة بالوجود، تلحظها بطبيعة الحال، تكيفات الاجتماع. حساسياتٌ لا تنشغل بالتسليم الفقهي العقدي الذي يؤبد منزليْ الكائن والإله: أعلى/ أدنى، ذكر قائم/ أنثى مقوّمة.. إلخ، بل هي حساسيات تطرح العلاقة البينية على التساؤل الدائم فضلا عن الانشغال، وهو الأهم، بمراكمة تأويلات متجددة لبواطنَ تظل مع الوقت بحاجة إلى الكشف.
صحيفة السفير اللبنانية