ربع قرن على مصيدة أوسلو: لماذا عارضناها منذ اليوم الأول؟ وكيف تنبأ محمود درويش بفشلها واستقال من القيادة الفلسطينية ودفع ثمنا غاليا؟

في مثل هذا اليوم قبل ربع قرن، دخلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، اكبر مصيدة في العصر العربي الحديث، نصبها لها الاسرائيليون وحلفاؤهم الغربيون وبعض العرب بدقة، ودخلت في دهاليزها وهي مفتوحة العينين، مصدقة كذبة السلام وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهي “كذبة” فضحتها الوقائع اللاحقة على الأرض.

كنا ثلاثة أصدقاء، من بين القلة التي شككت في مصداقية حفلة التكاذب، وخداع النفس هذه، وعارضناها علنا، اولنا الشاعر والاديب الكبير محمود درويش، والثاني عبد الله حوراني، وثالثهم كاتب هذه السطور، الكبير درويش استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتبعه على النهج نفسه حوراني، أما انا فلم اجد طريقة للتعبير عن رفضي لتلك الخطيئة غير كتابة افتتاحية الصحيفة التي كنت اترأس تحريرها عن الأوضاع في الصومال، لتظهر صباح يوم التوقيع والمصافحات والابتسامات في حديقة البيت الأبيض.

غضب الرئيس عرفات من هذه الوقفة الرافضة لهذه الاتفاقية، وما سبقها من اعترافات متبادلة بين إسرائيل ومنظمة التحرير ونبد المقاومة، والوعود بتعديل او الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، وصب جام غضبه على “كبيرنا” محمود درويش، الذي كان يدرك مكانته، وحجم تأثيره، واوقف عنه معظم مخصصاته المالية، حتى انه وصل الى مرحلة لم يستطع خلالها مغادرة شقته المتواضعة في احد احياء باريس، والمكونة من غرفتين وقاعة جلوس متوسطة الحجم، وتعود هذه الخطوة لأمرين أساسيين، لأول الإحباط والعزلة، والثاني ضيق ذات اليد وشح المال، تجنبا لإحراج عدم القدرة على دعوة أصدقاء او عابري سبيل، او معجبين على غداء او عشاء، او وجبة خفيفة في احد مقاهي باريس الغالية، وهو، أي درويش، المعروف بكرمه وشهامته.

سألته كيف تتحدث عن العزلة وانت النجم المشهور الذي تتابعه الملايين، وتعشق ابداعاته الشعرية، قال لي لماذا تستغرب؟ السبب بسيط، ويمكن حصره في ثلاثة، لا نقود، لا يهود، ولا نفوذ.

لا نقود”، لان معظم مخصصاته انقطعت، “ولا يهود” لان “الموضة” الدارجة في ذلك الوقت كانت المفاوضات مع الإسرائيليين السرية والعلنية، “ولا نفوذ” لأنه لم يعد قريبا من القيادة وعضوا في لجنتها التنفيذية، الامر الذي لم يعد يجعله قادرا على مساعدة كل ذي حاجة يطرق بابه ويطلب مساعدته عاتبت الرئيس عرفات بعد لقائي به في مكتبه في تونس لهذه المعاملة مع الراحل درويش، وقلت له، اننا كشعب فلسطيني لا نملك النفط ولا الوطن، وكل ثروتنا محصورة في مبدعينا، أمثال محمود درويش وادوارد سعيد وسميح القاسم ووليد الخالدي، والقائمة طويلة، فكيف تقطع المخصصات عن أحد اهم الشعراء العرب في العصر الحديث، ان لم يكن اهمهم؟.

فانتفض غاضبا وقال انني لم اقطع راتبه كعضو لجنة تنفيذية في منظمة التحرير، وها هو ياسر عبد ربه شاهد على ذلك، فقلت له ان راتب عضوا اللجنة التنفيذية الشهري لا يزيد عن 1200 دولار، ولا يكفي اجرة شقة في باريس، فتعهد بإعادة المخصصات الأخرى، واوفى بالوعد فورا، وتحسنت العلاقة بين الرجلين، ولكنها لم تعد الى عصرها الذهبي.

الرئيس عرفات كان محاصرا من معظم العرب، واهل الخليج خاصة، لأنه وقف مع العراق اثناء ازمة غزو الكويت، وعادته منظومة اعلان دمشق، او دول “المع” على وجه التحديد، التي تضم دول الخليج الست (اهل المال)، ومصر (التاريخ والريادة والكثافة السكانية)، وسورية (قلعة العروبة والصمود والرفض)، وكان يتعرض لضغوط من عدة “لوبيات”، بعضها فلسطيني من مجموعة رأس المال، وبعضها عربي، وثالثها أوروبي، واعتقد ان الذهاب في ممر أوسلو الذي هندسه السيد محمود عباس يمكن ان يحمي منظمة التحرير، ويكسر عزلتها، ويعيدها الى الساحة الدولية، ويبذر البذور الأولى لدولة فلسطينية.

اذكر انه انتحى بي جانبا، عندما خرجنا من مكتبه في حي يوغرته في تونس بحجة التمشي، وللابتعاد عن أجهزة التنصت، وقال لي اريد ان أقول لك امرا ارجوك لا تذكره او تنسبه الي الا بعد وفاتي، فتنهد وقال “انا ذاهب الى فلسطين عبر بوابة أوسلو، رغم كل تحفظاتي، من اجل ان اعيد المنظمة والمقاومة اليها، واعدك أنك سترى اليهود يهربون من فلسطين مثل الجرذان التي تهرب من السفينة الغارقة، هذا لن يتحقق في حياتي، ولكن في حياتك انت، واكد لي انه لا يثق بالإسرائيليين مطلقا، واجزم انه كان صادقا، وانا احكم هنا على الظواهر، والله اعلم بالبواطن.

الرئيس عرفات نال الشهادة التي كان يتمناها، وبالسم الإسرائيلي بعد حصاره في مكتبه لأشهر لأنه رفض توقيع اتفاقات كامب ديفيد، والتنازل عن القدس وحق العودة، وفجر الانتفاضة المسلحة الثانية، وكان يأتي بالأسلحة من أي مكان متاح، واعلم جيدا انه كان يتعاون ويدعم مجاهدي حركة “حماس” في قطاع غزة والضفة، بالمال والسلاح، واقام جسرا في هذا الاطار مع “حزب الله” في جنوب لبنان وقيادته، وكانوا يرسلون الأسلحة في سفن تحملها في براميل وتلقيها في البحر قبالة قطاع غزة، لانه ادرك ان الإسرائيليين لا يريدون السلام، وتقديم أي تنازلات، وقيام الدولة المستقلة.

لا اكشف عن بعض هذه المعلومات، وربما يكون بعضها معروفا، دفاعا عن المرحوم بأذن الله عرفات، وانما شهادة للتاريخ مع قناعتي الراسخة بأن اتفاقات أوسلو كانت خطيئة تاريخية، وطعنة مسمومة في قلب القضية الفلسطينية، قادت الى كل الكوارث الحالية ابتداء من عار التنسيق الأمني، ومرورا بإعطاء الضوء الأخضر للتطبيع العربي مع إسرائيل، وانتهاء بصفقة القرن التي بدأ تطبيقها على مراحل، اولها الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة ابدية لكل يهود العالم، وثانيها الغاء حق العودة، وثالثها الكونفدرالية مع الأردن، والتهدئة في القطاع، وربما ضم معظم المستوطنات و800 الف مستوطن فيها الى إسرائيل.

لدي ايمان راسخ بأن صفقة القرن، او اي صفقة أخرى، لن تنهي القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، رغم كل السلبيات والتنازلات، والمجاهرات باثم التطبيع، ونقل دولة الاحتلال الإسرائيلي من خانة الأعداء الى خانة الأصدقاء والحلفاء، وقاعدة هذا الايمان هو ما نراه من صلابة للشعب الفلسطيني والشرفاء في الامتين العربية والإسلامية، وهم الأكثرية، تلك الصلابة التي رأيناها في خمسة انتصارات، ثلاثة في قطاع غزة، واثنان في جنوب لبنان في اقل من ثلاثة عقود.

الاسرائيليون أرادوا انهاء منظمة التحرير وزعيمها احمد الشقيري من خلال هزيمة حزيران عام 1967، فخرجت لهم المقاومة من وسط رمادها، واعتقدوا ان اتفاقات أوسلو ستدفن هذه المقاومة في ثناياها، فجاءت المقاومة الإسلامية الممثلة في حركة “حماس″ و”الجهاد” و”اللجان” لتبدد هذا الوهم وتفشل كل الرهانات بالاستسلام.

اتفاقات اوسلو كانت “كبوة” لم تعد على الشعب الفلسطيني الا بالكوارث، ولكن دروس التاريخ علمتنا ان امتنا تجاوزت محن كثيرة تتواضع امامها هذه الاتفاقيات واخطارها.. والأيام بيننا

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى