لقد اختار الكاتب جان يونان هذا العنوان، عنواناً لمجموعته القصصيّة التي تأخذنا في رحلة حكايا قصّها علينا الكاتب من خلال تجربته الشخصيّة الثرّة الممزوجة بتعديلات يقتضيها السرد القصصي وتقنيّات القصّة المتوافرة لديه.
من خلال العنوان يخاطب الكاتب قرّاءه، بأنّك أيّها القارئ الكريم قد كنت في هذا المكان القصصي وأنّك كنت أحد شخوص هذه القصص التي أرويها. إنّها قصص من ذاكرته الحيّة ومن تجربةٍ غنيّةٍ مرّ بها الكاتب خلال مسيرته الحياتيّة المضنية. من فتىً يافع يزور أقرباؤه في ضيعة تقع على الخابور بين مدينتي الحسكة ورأس العين كما في قصّة “على ضفاف الخابور” إلى طالب جامعي يبحث عن عمل ليغطّي مصاريف دراسته الجامعيّة كما في قصّة “طلب توظيف” وقصّة “أيّام المسرح” إلى موظّف في شركات القطّاع الحكومي بعد تخرّجه من كليّة الهندسة المدنيّة في الجامعة كما في قصّة “أبو ساكو” إلى موظّف في قطاع النفط والغاز كما في قصّة “الحنظل” وقصّة “مكالمة هاتفيّة. ومن أحداث عايشها في بلدته الوادعة المالكية وريفها كما في قصّة “سينما دجلة” وقصّة “المختلف” وقصّة “زوج الاثنتين” وقصّة “انشقاق حارس المرمى”، كما ويأخذنا إلى ريف الرقّة كما في قصّة “معلّم القرية الوحيد” ثمّ يقتفي أثر صديقه سنحاريب منذ أيّام الطفولة في بلدته المالكيّة إلى المهجر كما في قصّة “طبيب الأسنان”.
بادئ ذي بدء، لابد لي من شكر المؤلف جان يونان على نصوصه التي تأخذ قارئها في رحلة يجوب خلالها مناطق في الجغرافيا السورية ربما لم نعلم عنها سوى في الكتب المدرسية. يعود الفضل إلى كاتبنا في تقديم تفاصيل هامة وغنية عن منطقة شمال شرق سورية شملت عادات وتقاليد تلك المنطقة وتفاصيل حياة سكانها ونوعية طعامهم وملبسهم وقصص قراهم وما تنتجه من محاصيل زراعية وإلى ما هنالك من تفاصيل يجهلها الكثير من القراء وقد لا يعرف عنها سوى القليل من قراء آخرين.
إنّ هذه المجموعة هي التجربة الأولى للكاتب والّتي يغلب عليها الطابع الكوميدي والساخر كما في قصّة انشقاق حارس المرمى، حيث يأخذنا الكاتب من التفصيلات الآنيّة البسيطة لمحاكمة منطق حارس مرمى في مباراة كرة قدم بين قريتين إلى الحالة الإنسانيّة الواسعة الّتي تقتضيها ضرورة الحياة بأشكالها المختلفة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في قرى بعيدة ونائية.
إنّه خزّان الذاكرة الّذي لا ينضب والذي يختزن تفاصيل حياتيّة بأدق تفاصيلها، تلك الأحداث الّتي عايشها الكاتب وقد قدّمها لنا بشكل حكاية بأسلوب كوميدي ساخر، فما علينا إلّا الاستمتاع بقراءة القصّة وبغنى شخوصها بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم. وقد تعمّد الكاتب أثناء السرد القصصي أن يخرج عن النص ليسرد أحداثا أخرى لتتوزع القصّة إلى محاور جانبيّة، وقد كان ذلك السرد الجانبي إغناء الموضوع الرئيسي بأحداث سرديّة اقتضتها الحكاية. تلك الأحداث التي عاشها الكاتب والتي شكّلت صلب وموضوع قصصه كلّها ضمن هذه المجموعة القصصيّة “ربّما كنتً هنا”، نعم فقد كنتُ هناك وقد عايشتُ بعضاً من شخوص تلك القصص فلا تزال شخصيّة أبو ساكو حيّة وتحاكي وجداننا لكل ما قدّمه من خدمات للناس الموجودين في تلك البقعة الجغرافيّة من محيط حقول النفط في المنطقة الشرقيّة من سوريا.
ففي قصّة زوج الاثنتين يأخذنا الكاتب جان يونان إلى قصّة زواج أحد أصدقائه من زوجة روسيّة “الاتّحاد السوفياتي” سابقاً، عندما كانت الدولة توفد طلّابا للدراسة هناك. وقد اضطر بطل القصّة “الزوج” إلى البحث عن زوجة سوريّة بعد أن رفضت الزوجة الروسيّة القدوم معه من “الاتّحاد السوفياتي” والعيش في سوريا. ولكنّ الزوجة الروسيّة بعد فترة من الزمن تقرّر أن تأتي لتعيش مع زوجها في سوريا باحثة عنه، وتعيش معه زوجة وفيّة ومحبّة. وصادف يوم وصولها إلى القامشلي يوم عرس البطل الّذي أولم لمعازيمه في يوم عرسه وفرحه. ينقلنا الكاتب إلى تلك المعضلة بأسلوب ساخر وممتع، حيث يحاول الزوج إرضاء الزوجتين والاحتفاظ بكلتيهما، ولكن هيهات أن تقبل الزوجة السوريّة بوجود ضرّة أجنبيّة لها وتطلب الطلاق، (إنّه حال النساء جميعا في شتّى أصقاع الأرض)، وكان لها ما أرادت. أمّا في قصّة “معلّم المدرسة الوحيد” فيتطرّق الكاتب إلى واقع التعليم في تلك الفترة من تاريخ سوريا، حيث أن كلّ الصفوف في غرفة صفّ واحدة ونقص في الكادر التعليمي وفي البنية التحتيّة للتعليم، حيث لا مدارس تفي حاجة القرى البعيدة للتعليم ولا أماكن فإقامة الكادر التدريسي ولا مواصلات لتأمين الطلبة والمعلّمين
لقد كان حضور المرأة في بعض القصص حضورا خجولا وعابرا وفي بعضها الآخر أضفى حضور غنىً وتنوّعا للشخصيّات النسويّة كما في قصّة مكالمة هاتفيّة وزوج الاثنتين.
هناك لغة رشيقة ومتميزة قادرة على شد انتباه القارئ وأسره ضمن سياقها في معظم القصص.
قد يُقال الكثير من النقد عن هذه المجموعة، لكن لا يسعني في ختام هذه المراجعة السريعة إلّا أن أحيي الكاتب جان يونان على باكورة أعماله القصصيّة متمنيّاً له النجاح والمواظبة على كتابة القصة القصيرة، هذا الفن الرفيع من الأدب، وأن نرى مجموعات قصصيّة أخرى للكاتب تزدان بها مكتباتنا العربيّة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة